قد ذكرناه فيما تقدم في قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الروم : ٣٠].
وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ).
قال بعض أهل التأويل (١) : لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم من الله.
ثم هو يخرج على وجهين :
أحدهما : لا مرد له من الله ، أي : لا يردون من ذلك اليوم إلى ابتداء المحنة ؛ كقولهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) الآية [الأنعام : ٢٧] ، وقولهم : (أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] ، ثم أخبر عنهم فقال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ، أي : لا يردون إلى ما يسألون الرد.
والثاني : (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ، أي : لا إقالة لهم من الله ولا عفو ولا توبة إذا أتاهم ذلك اليوم ؛ كقوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ...) الآية [الأنعام : ١٥٨].
وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ).
أي : يتفرقون ؛ كقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] ، هو يوم الافتراق ، ويوم الجمع ، ويوم الفصل على اختلاف الأحوال والأوقات ، والله أعلم.
وقوله : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ).
أي : من كفر فعليه كفره وعليه ضرر كفره ، ومن آمن وعمل صالحا ، فله ثواب إيمانه ، وله منفعة عمله ؛ لأنه ـ عزوجل ـ إنما امتحنهم بأنواع ما امتحن لمنافع أنفسهم ولحاجتهم ، لا لحاجة أو لمنفعة له ، وكذلك قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦] ، وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الآية [الإسراء : ٧] ، وهو ما ذكرنا أنه إنما أمرهم ونهاهم وامتحنهم ؛ لمنافع أنفسهم ولحاجتهم ، لا لحاجة أو لمنفعة لنفسه ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.
وقوله : (يَمْهَدُونَ) ، قال بعضهم : يفترشون.
وقال أبو عوسجة والقتبي : فلأنفسهم يعملون ويوطئون ، وهو من المهاد ، والمهاد في الأصل : الفراش.
وقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ).
هذا يدل أن الثواب والجزاء سبيل وجوبه الفضل في الحكمة ؛ لما سبق من الله إليهم نعم ما لم يتهيأ لهم القيام بشكر واحدة منها ، فضلا أن يقوموا للكل ؛ فإذا كان كذلك صار
__________________
(١) قاله البغوي في تفسيره (٣ / ٤٨٦).