(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات : ٢٠] ، أي : ضعيف.
ثم قوله : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) ، أي : إنسانا يقوى على أمور وعلى أشياء.
(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) أي : شيخا فانيا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) [النحل : ٧٠].
وجائز أن يكون قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) ، أي : أطفالا على الخلقة التي أنتم عليها اليوم ، ضعفاء لا تقوون على أشياء وأمور ، ولا يقوى شيء منكم على شيء ، ثم جعلكم من بعد ذلك الضعف أقوياء تقوون على أشياء وأمور ، ثم يجعلكم من بعد تلك القوة والقدرة ضعفاء شيوخا لا تقدرون على شيء ، على ما يكون ؛ يحتمل هذين الوجهين.
ثم فيه وجهان من الدلالة :
أحدهما : على البعث ؛ والثاني : على القدرة على إنشاء الخلق والأشياء لا من أصول.
أما الدلالة على البعث ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث وإنشاء الشيء لا من أصل ؛ لخروج ذلك عن قواهم وتقديرهم ، ؛ فيخبر أن النطفة تصير علقة ، وليس فيها من العلقة ولا من آثارها شيء ، وكذلك العلقة تصير مضغة ، وليس فيها من آثار المضغة شيء ، وكذلك المضغة تصير إنسانا فيه عظم وجلد وشعر ولحم ، وليس شيء من ذلك فيها ؛ فمن قدر على ما ذكر لقادر على خلق الشيء لا من أصل ، وقادر على البعث ؛ إذ كل ما ذكر أقروا به ، وهو خارج عن قواهم وعن تقديرهم ؛ فلزمهم الإقرار بالبعث والإنشاء لا عن أصل وألا يقدروا قدرتهم وقواهم بقدرة الله وقوته ، على ما شاهدوا أشياء خارجة عن قواهم وعن تقديرهم ، بقوته وقدرته.
والثاني : أن ما ذكر من تحويل النطفة إلى العلقة ، والعلقة إلى المضغة ، والمضغة إلى الصورة والإنسان ـ لم يخلقهم ولم ينقلهم ؛ ليكون كما ذكر بلا عاقبة تكون لهم ولا بعث ؛ فلو لم يكن بعث لكان ما ذكر من تحويل حال إلى حال عبثا باطلا ، على ما ذكر ، وكذلك فيما أحدث في الأطفال من القوة والقدرة ، بعد ما كانوا ضعفاء لا يقوون ولا يقدرون على شيء أنه إنما أحدث ذلك فيهم ؛ ليمتحنوا ، ويجعل لهم [ما] يثابون ويعاقبون ، إذ لو لم يكن بعث ولا عاقبة لكان فعل ذلك عبثا باطلا.
وفيه القدرة على إنشاء الشيء وإحداثه لا من شيء ؛ إذ كان التركيب موجودا على التمام ولا قوة بهم ، ثم حدث القوة ولا أصل لها ولا أثر من آثارها ؛ دل أن تقدير قوى الخلق وقدرتهم ، بقوى الله وقدرته محال ، والله الموفق.
وقوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).