وقال في آية أخرى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) [الرعد : ٣] ، والرواسي : هن الثوابت ، أي : أثبت الأرض بالجبال ؛ كقوله : (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٣٢] ، أي : أثبتها.
وقوله : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ، أي : لئلا تميد بكم ، ذكر الميد ـ وهو الميل والاضطراب ـ وليس من طبع الأرض الميل والاضطراب ؛ وإنما طبعها التسرب والتسفل والانحدار ؛ فلا يدرى أن كيف حالها في الابتداء؟ وما في سريتها مما يحملها على الاضطراب والميد ؛ حتى أثبتها وأرساها بالجبال ، والله أعلم بذلك.
وقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ).
قال بعضهم : بث : خلق ، وقيل (١) : بث : فرق ، وفيه أنه جعل الأرض مكانا ومعدنا لكل أنواع الدواب الممتحن وغير الممتحن ، والمميز وغير المميز ، والسماء لم تجعل إلا لنوع من الخلق أهل العبادة.
وقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).
أي : أنبتنا فيها من كل لون يتلذذ به الناظر إليه ، كريم ينال منه كل ما أراده وتمناه ؛ إذ الكريم هو ما يطمع منه نيل كل ما عنده وأريد منه.
وقال بعضهم (٢) : الكريم : الحسن ، أي : أنبتنا فيها من كل لون حسن ما يستحسنه الناظر ويتلذذ به ، على ما ذكر في آية أخرى : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق : ٧] : ما يبهج ويسر به كل ناظر إليه ، والله أعلم.
وقوله : (هذا خَلْقُ اللهِ).
يقول : ما ذكر من خلق السموات والأرض وما بث من الدواب ، وما أنبت من كل زوج كريم.
وقوله : (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).
يذكر سفههم ، يقول : إنكم تعلمون أن ما ذكر من السموات والأرض ، وجميع ما فيهما ـ هو كله خلق الله ، وأنه هو خالق ذلك كله ، وأن الأصنام التي تعبدونها من دونه لم تخلق شيئا من ذلك ، ولا تملك خلق شيء ؛ فكيف تعبدونها من دونه ، وسميتموها : آلهة ، وصرفتم العبادة والألوهية عن الذي خلقكم وخلق السموات والأرض وما فيهما؟! وإنما يستحق الألوهية والربوبية لخلقه ما ذكر ؛ فالأصنام : إذا لم يكن منها خلق ؛ فكيف سميتموها : آلهة وعبدتموها دون الله؟! هذا ـ والله أعلم ـ تأويل قوله : (فَأَرُونِي ما ذا
__________________
(١) قاله ابن جرير (١٠ / ٢٠٧).
(٢) قاله قتادة أخرجه ، ابن جرير (٢٨٠٧٦) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣١٠).