قال لأكبرهم ساحرا : أتؤمن بي إن غلبتك ، وقال الساحر كذا ، وغير ذلك من الكلام مما ليس ذلك في الكتاب ذكره ، وليس ينبغي لهم أن يشتغلوا بشيء من ذلك ، أو أن يتأولوا شيئا ليس في القرآن لما يدخل في ذلك من الزيادة والنقصان ؛ فيكون للكفرة مقال في ذلك وطعن في رسالة رسول الله ؛ لأن هذه الأنباء كانت في كتبهم ، فذكرت لرسول الله لتكون آية له في الرسالة ، فإن زادوا أو نقصوا يقولون : هذا كذب لم يذكر في كتابنا ذلك ؛ فلهذا الوجه ما ينبغي لهم أن يزيدوا على ما ذكر في الكتاب أو ينقصوا ؛ لئلا يجد أولئك مقالا في تكذيب رسول الله (١).
وقوله : (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) : فإن قيل : كيف قال موسى لأولئك السحرة : ألقوا ، وهو يعلم أن ما يلقون هو سحر ، فكيف أمرهم بالسحر؟!
قيل : هذا وإن كان في الظاهر أمرا فهو في الحقيقة ليس بأمر ، إنما هو تهدد وتوعد ، أي : ألقوا لتروا عجزكم وضعفكم ، وذلك في القرآن ظاهره أمر ، وهو في الحقيقة توعد ؛ كقوله لإبليس : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ...) الآية [الإسراء : ٤٦] ، لا يخرج على الأمر ، ولكن على التوعد والتهدد ، أي : وإن فعلت ذلك فلا سلطان لك عليهم ؛ كقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، وقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).
والثاني : أمرهم بذلك ؛ ليظهر كذبهم ويتبين صدقه وحجته ؛ إذ بذلك يظهر.
أو قال لهم ذلك لما كان ذلك سبب إيمان أولئك السحرة ، والله أعلم.
وقوله : (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) : هذا يدل أن السحرة كانوا يعبدون فرعون حيث قالوا : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) ، وقد علموا عجز فرعون وضعفه ؛ حيث فزع إليهم وقال : (فَما ذا تَأْمُرُونَ).
وقوله : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) ، وقد قرئ : تلقف بالتخفيف.
قال أبو عوسجة : تقول : تلقفت الشيء والتقفته ، أي : أخذته ، وقال غيره : تلقف ، أي : تلقم ؛ وهو واحد.
وقوله : (يَأْفِكُونَ) : وهو الفاعل بمعنى المفعول ، أي : مأفوك ، وذلك جائز في اللغة وأمثاله كثير ؛ كقوله : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ).
وقوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) : أخبر لسرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا لما بان لهم من الحق وظهر ، فقالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).
__________________
(١) ثبت في حاشية أ : ومطعنا في رسالته ؛ لأن الكاذب لا يصلح أن يكون رسولا ، والله أعلم.