والله أعلم ـ على ما ذكر في ظاهر الآية : واغفر لأبي فإنه من الضالين ؛ لأنه لا يجوز له أن يدعو له وهو كذلك ، لكن كان من إبراهيم الاستغفار له ، فأخبر الله له أنه من الضالين ؛ فيكون هذا الثاني إخبارا من الله لإبراهيم أنه من الضالين ، والأول قول إبراهيم.
وكذلك قال بعض أهل التأويل في قصة بلقيس حيث قال : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) [النمل : ٣٤] ، فصدقها الله تعالى في مقالتها وقال : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) ، يجعلون قوله : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تصديقا من الله لقول تلك المرأة ، وأمثال ذلك كثير في القرآن ، يكون بعضه مفصولا من بعض (١) [كقوله] : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ. لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) [القيامة : ١٥ ، ١٦] ؛ قوله : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) مفصول من قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ، لا وصل بينهما ؛ فعلى ذلك دعاء إبراهيم يحتمل أن يكون قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) مفصولا من قوله : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) ، هذا جائز أن يكون إخبارا من الله لإبراهيم حين دعا له بالمغفرة أنه من الضالين.
وجائز أن يكون قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) أي : أعط له ما به تغفر خطاياه وهو التوحيد ؛ فيكون سؤاله سؤال التوحيد له والتوفيق على ذلك ، وبه يغفر ما يغفر من الخطايا ؛ كقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].
وعلى ذلك يخرج دعاء هود لقومه حيث أمرهم أن يستغفروا ربهم ، وهو قوله : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٥٢] ، (وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر : ٥٤] ، طلب منهم ابتداء الإسلام ؛ إذ لا يحتمل أن يقول لهم : قولوا : نستغفر الله ، ولكن أمرهم أن يأتوا ما به يغفر لهم وهو التوحيد ؛ وكذلك قول نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠].
وقول أهل التأويل : «إن إبراهيم كذب ثلاثا» كلام لا معنى له ، لا يحتمل أن يكون الله يختاره ويجعل رسالته في الذي يكذب بحال.
وقوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) : قال أهل التأويل : (لا تُخْزِنِي) أي : لا تعذبني يوم يبعثون ، وكأن الإخزاء هو العذاب الذي يهتك الستر على صاحبه ، فسأله ألا يهتك الستر عليه ؛ لما خاف أن كان منه ما يهتك الستر عليه ، فسأل ربه ذلك ؛ إذ العصمة لا ترفع عن أصحابها الخوف ، بل كلما عظمت العصمة كان الخوف أشدّ ؛ لأن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ كان خوفهم أشدّ على دينهم وأنفسهم من غيرهم ، ثم الأمثل فالأمثل ، هم كذلك أشدّ خوفا ممن هو دونهم ؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم حيث قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، وقال يوسف : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٥ / ١٩).