لو لم يكن من عنده لخرج مختلفا متناقضا على ما يخرج حديث الناس وخبرهم مختلفا ومتناقضا ، والله أعلم.
وقوله : (مَثانِيَ) قال أهل التأويل (١) : سماه : مثاني ؛ لما ثنّى فيه أنباؤه وقصصه مرة بعد مرة ، وأصله : أنه سماه : مثاني ؛ لأنه ذكر فيه المواعظ والذكرى وكررها في غير موضع ، لما لو لم يكررها غفلوا عنها ، وسهوا عنها ؛ لأن الحكيم إذا وعظ أحدا عظة وزجره وسها عنه [كررها عليه] ، وكرر ـ عزوجل ـ عليهم المواعظ والزواجر ؛ ليكونوا أبدا متعظين متذكرين لذلك ـ والله أعلم ـ لكيلا يغفلوا عنها ولا يسهوا.
وقوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال أهل التأويل (٢) : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) عند تلاوة آية الرهبة والخوف ، وتلين قلوبهم عند تلاوة آية الرحمة.
وجائز أن يكون ذلك لهم بجميع القرآن بما فيه من الرحمة والرهبة جميعا يكون فيهما الموعظة : تلين قلوبهم وتقشعر جلودهم وتخاف أنفسهم ؛ لأن آية الرحمة ليست بأحق بتليين القلوب من آية الرهبة ، بل آية الرهبة أحق بذلك.
وقتادة يقول : كانت جلودهم تقشعر ، وعيونهم تبكي ، وقلوبهم تطمئن إليه ، ولا تذهب عقولهم ، ولا يغشى عليهم ، كما رأينا أهل البدع يفعلونه ، وإنما ذلك من الشيطان (٣).
وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) قد بين سبيل الهدى والحق ، وحججه وبراهينه ، وبين سبيل الضلالة والباطل ، فمن سلك سبيل الهدى فبتوفيقه سلك ، وبمعونته اهتدى ، ومن سلك طريق الكفر والباطل فبخذلانه ضل وزاغ.
وقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أخبر أنّ من أضله الله فلا هادي له ، وعلى ما قال في المعيشة والرزق ؛ قال ـ عزوجل ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٢] وقال ـ عزوجل ـ في الضراء والخير ؛ حيث قال : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧] ذكر في الضلال والهدى ما ذكر في الرزق والضر والخير ، ذلك أنّ لله في فعلهم وصنعهم تدبيرا ، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا تدبير لله في ذلك ، وأن من اهتدى إنما يهتدي بنفسه ، ومن ضل وزاغ إنما ذلك بنفسه ، لا تدبير لله في ذلك ، فالآية
__________________
(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٠١٢١) وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم.
(٢) قاله ابن جريج أخرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٠).
(٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور (٥ / ٦١٠).