ويرى الراغب في المفردات أن «البطش» على زنة (نقش) هو أخذ الشيء بقوّة وقسّوة واستعلاء ...
وفي الحقيقة أن هودا يوبخ عبدة الدنيا عن طرق ثلاثة :
الأوّل : علاماتهم التي كانت مظهرا لحبّ الاستعلاء وحب الذات ، والتي كانت تبنى على المرتفعات العالية ليفخروا بها على سواهم.
ثمّ يوبخهم على مصانعهم وقصورهم المحكمة ، التي تجرهم إلى الغفلة عن الله ، وإن الدنيا دار ممر لا مقر.
وأخيرا فإنّه ينتقدهم في تجاوزهم الحدّ والبطش عند الانتقام ...
والقدر الجامع بين هذه الأمور الثلاثة هو الإحساس بالاستعلاء وحبّ البقاء. ويدلّ هذا الأمر على أن عشق الدنيا كان قد همين عليهم ، وأغفلهم عن ذكر الله حتى ادعو الألوهية ... فهم بأعمالهم هذه يؤكّدون هذه الحقيقة ، وهي أن «حب الدنيا رأس كل خطيئة». (١)
والقسم الثّالث من حديث هود ممّا بيّنه لقومه ، هو ذكر نعم الله على عباده ليحرك فيهم ـ عن هذا الطريق ـ الإحساس بالشكر لعلهم يرجعون نحو الله ...
وفي هذا الصدد يتبع النّبي هود أسلوبي الإجمال والتفصيل ، وهما مؤثران في كثير من الأبحاث ، فيلتفت نحوهم أولا فيقول : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ). (٢)
وبعد هذا التعبير المجمل يذكر تفصيل نعم الله عليهم ، فيقول : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ...)
فمن جهة وفّر لكم الأمور المادية ، وكان القسم المهم منها ـ خاصّة في ذلك
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.
(٢) (أمدّ) مأخوذ من «الإمداد» ، ويطلق في الأصل على أمور توضع بعضها بعد بعض بشكل منظم ، وحيث أن الله يرسل نعمه بشكل منظم إلى عباده استعملت هذه الكلمة هنا أيضا ...