وكما يقع التركيب في هيئة الحركة ، قد يقع في هيئة السكون ، كقول أبي الطيب في صفة الكلب :
يقعى جلوس البدي المصطلي |
|
بأربع مجدولة لم تجدل (١) |
فلم ينل التشبيه حظا من الحسن إلا لما فيه من التفصيل من حيث كان لكل عضو من أعضاء الكلب في إقعائه موقع خاص ، وكان مجموع تلك الجهات في حكم أشكال مختلفة تؤلف منها صورة خاصة ، وكذلك صورة جلوس البدوي عند الاصطلاء.
والمركب العقلي كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً)(٢) ، فالتشبيه منتزع من أمور مجموعة قرن بعضها الى بعض ، ذلك أنه روعي من الحمار فعل مخصوص وهو الحمل ، وأن يكون المحمول أوعية العلوم ومستودع ثمار العقول ، وأن الحمار جاهل لما فيها ، فلاحظ له إلا أن يثقل عليه الحمل أو يكد جنبيه ، وكذا في جانب المشبه ، فقد روعي أنهم فعلوا فعلا مخصوصا ، هو الحمل المعنوي ، وكون المحمول أوعية العلوم وكونهم جاهلين لما فيها.
(تنبيه) قد تقع بعد أداة التشبيه أمور يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها ، فيقع الخطأ لكونه أمرا منتزعا من جميعها ، كقوله :
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة |
|
فلما رأوها أقشعت وتجلت (٣) |
فإنه ربما يظن أن الشطر الأول منه تشبيه مستقل بنفسه ، لا حاجة به الى الثاني ، على أن المراد به ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة اليه ،
__________________
(١) الاقعاء الجلوس على الاليتين ، والاصطلاء الاستدفاء بالنار ، ومجدولة محكمة الخلق لم يحد لها انسان ، والغرض مدح الكلب بشدة الحرص.
(٢) سورة الجمعة الآية ٥.
(٣) أقشعت اضمحلت وذهبت ، وأبرقت قوما أي لقوم ، ففي الأساس : أبرقت لي فلانه إذا تحسنت لك وتعرضت ، وعطاش جمع عطشان. وقبله :
لقد أطمعتني بالوصال تبسما |
|
وبعد رجائي أعرضت وتولت |