هذا من محاجة أهل الكتاب. ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في «الشفاء» : «ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم القصة منه إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك فيورده النبي صلىاللهعليهوسلم على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه كخبر موسى مع الخضر ، ويوسف وإخوته ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، ولقمان» إلخ كلامه ، وإن كان هو قد ساقه في غير مساقنا بل جاء به دليلا على الإعجاز من حيث علمه به صلىاللهعليهوسلم مع ثبوت الأمّيّة ، ومن حيث محاجته إياهم بذلك. فأما إذا أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن أدبهم مشتملا على التاريخ إلا بإشارات نادرة ، كقولهم درع عاديّة ، ورمح يزنيّة ، وقول شاعرهم :
أحلام عاد وأجسام مطهّرة |
|
وقول آخر : |
تراه يطوّف الآفاق حرصا |
|
ليأكل رأس لقمان بن عاد |
ولكنهم لا يأبهون بذكر قصص الأمم التي هي مواضع العبرة ، فجاء القرآن بالكثير من ذلك تفصيلا كقوله : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) [الأحقاف : ٢١] وكقوله : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] ولهذا يقل في القرآن التعرض إلى تفاصيل أخبار العرب لأن ذلك أمر مقرر عندهم معلوم لديهم ، وإنما ذكر قليل منه على وجه الإجمال على معنى العبرة والموعظة بخبر عاد وثمود وقوم تبع ، كما أشرنا إليه في المقدمة السابعة في قصص القرآن.
وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين : قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه ، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم ، وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أمّيّ في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم ، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص : [٤٩ ـ ٥٠] (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة ، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألّفوه.