والإلقاء : حقيقته رمي الشيء من اليد إلى الأرض ، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب ، وكثر هذا في القرآن ، قال : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) [النحل : ٨٦ ، ٨٧]. واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض.
والروح : الشريعة ، وحقيقة الروح : ما به حياة الحيّ من المخلوقات ، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم ، فكما تستعار الحياة للإيمان والعلم ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة ، ويطلق الروح على الملك قال : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧].
و (مِنْ) ابتدائية في (مِنْ أَمْرِهِ) أي بأمره ، فالأمر على ظاهره. ويجوز أن تكون (مِنْ) تبعيضية ظرفا مستقرا صفة (الرُّوحَ) أي بعض شئونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن ، أي الشئون العجيبة ، وقيل : (مِنْ) بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد.
وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر : ١٤] ثم أعقب بقوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) فأشار إلى عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات ، ثم أعقب بقوله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) فجيء بفعل الإلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤]. وهذا يرتبط بقوله في أول السورة [٢] (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) فأمر رسوله صلىاللهعليهوسلم بالإخلاص في العبادة مفرعا على إنزال الكتاب إليه ، وجاء في شأن الناس بقوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) [غافر : ١٤] ثم أعقبه بقوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ).
وقد ضرب لهم العرش والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء ، وفيه تعريض بتسفيه المشركين (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٤] ، (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] و (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤].
وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) [غافر : ١٢] إلخ.