من حال انصرافهم عن التصديق بعد تلك الدلائل البيّنة. والاستفهام مستعمل في التقرير وهو منفي لفظا ، والمراد به : التقرير على الإثبات ، كما تقدم غير مرة ، منها عند قوله : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) في سورة البقرة [٢٦٠].
والرؤية علمية ، وفعلها معلق عن العمل بالاستفهام ب (أَنَّى يُصْرَفُونَ) ، و (أنّى) بمعنى (كيف) ، وهي مستعملة في التعجيب مثل قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [آل عمران : ٤٧] أي أرأيت عجيب انصرافهم عن التصديق بالقرآن بصارف غير بيّن منشؤه ، ولذلك بني فعل (يُصْرَفُونَ) للنائب لأن سبب صرفهم عن الآيات ليس غير أنفسهم. ويجوز أن تكون (أنّى) بمعنى (أين) ، أي ألا تعجب من أين يصرفهم صارف عن الإيمان حتى جادلوا في آيات الله مع أن شبه انصرافهم عن الإيمان منتفية بما تكرر من دلائل الآفاق وأنفسهم وبما شاهدوا من عاقبة الذين جادلوا في آيات الله ممن سبقهم ، وهذا كما يقول المتعجب من فعل أحد «أين يذهب بك».
وبناء فعل (يُصْرَفُونَ) للمجهول على هذا الوجه للتعجيب من الصارف الذي يصرفهم وهو غير كائن في مكان غير نفوسهم.
وأبدل (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) من (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) لأن صلتي الموصولين صادقتان على شيء واحد ، فالتكذيب هو ما صدق الجدال ، والكتاب : القرآن.
وعطف (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) يجوز أن يكون على أصل العطف مقتضيا المغايرة ، فيكون المراد : وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب قبل نزول القرآن ، فيكون تكذيبهم ما أرسلت به الرسل مرادا به تكذيبهم جميع الأديان كقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، ويحتمل أنه أريد به التكذيب بالبعث فلعلهم لما جاءهم محمد صلىاللهعليهوسلم بإثبات البعث سألوا عنه أهل الكتاب فأثبتوه فأنكر المشركون جميع الشرائع لذلك. ويجوز أن يكون عطف مرادف ، فائدته التوكيد ، والمراد ب (رُسُلَنا) محمد صلىاللهعليهوسلم كقوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] يعني الرسول نوحا على أن في العطف فائدة زائدة على ما في المعطوف عليه وهي أن مما جاء به الرسولصلىاللهعليهوسلم مواعظ وإرشادا كثيرا ليس من القرآن.
وتفرع على تكذيبهم وعيدهم بما سيلقونه يوم القيامة فقيل فسوف يعلمون ، أي سوف يجدون العذاب الذي كانوا يجادلون فيه فيعلمونه. وعبر عن وجدانهم العذاب بالعلم به بمناسبة استمرارهم على جهلهم بالبعث وتظاهرهم بعدم فهم ما يقوله الرسولصلىاللهعليهوسلم فأنذروا