بالجواب قبل انتهاء المقالة طمعا في أن ينفعهم الاعتذار. فجملة (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) معترضة في أثناء القول الذي قيل لهم ، ومعنى (ضَلُّوا) غابوا كقوله : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] أي غيبنا في التراب ، ثم عرض لهم فعلموا أن الأصنام لا تفيدهم. فأضربوا عن قولهم : (ضَلُّوا عَنَّا) وقالوا : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئا يغني عنا ، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يعتدّ به ، كما تقول : حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء ، إن كنت خبرته فلم تر عنده خيرا. وفي الحديث : «سئل النبي صلىاللهعليهوسلم عن الكهان فقال : «ليسوا بشيء» أي ليسوا بشيء معتدّ به فيما يقصدهم الناس لأجله ، وقال عباس بن مرداس :
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ |
|
فلم أعط شيئا ولم أمنع |
وتقدم عند قوله تعالى : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) في سورة العقود [٦٨] ، إذ ليس المعنى على إنكار أن يكونوا عبدوا شيئا لمنافاته لقولهم : (ضَلُّوا عَنَّا) المقتضي الاعتراف الضمني بعبادتهم.
وفسر كثير من المفسرين قولهم : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أنه إنكار لعبادة الأصنام بعد الاعتراف بها لاضطرابهم من الرعب فيكون من نحو قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]. ويجوز أن يكون لهم في ذلك الموقف مقالان ، وهذا كله قبل أن يحشروا في النار هم وأصنامهم فإنهم يكونون متماثلين حينئذ كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).
وجملة (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) تذييل معترض بين أجزاء القول الذي يقال لهم.
ومعنى الإشارة تعجيب من ضلالهم ، أي مثل ضلالهم ذلك يضل الله الكافرين. والمراد بالكافرين : عموم الكافرين ، فليس هذا من الإظهار في مقام الإضمار. والتشبيه في قوله : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) يفيد تشبيه إضلال جميع الكافرين بإضلاله هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله ، فتكون جملة (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) تذييلا ، أي مثل إضلال الذين يجادلون في آيات الله يضل الله جميع الكافرين ، فيكون إضلال هؤلاء الذين يجادلون مشبها به إضلال الكافرين كلهم ، والتشبيه كناية عن كون إضلال الذين يجادلون في آيات الله بلغ قوة نوعه بحيث ينظّر به كل ما خفي من أصناف الضلال ، وهو كناية عن كون مجادلة هؤلاء في آيات الله أشدّ الكفر.
والتشبيه جار على أصله وهو إلحاق ناقص بكامل في وصف ولا يكون من قبيل