فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». ويجوز أن يكون المعنى أصالة وإدماجا على عكس ما بيّنا ، فيكون عودا إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالالهية بدليل من مخلوقاته التي يشاهدها الناس مشاهدة متكررة ، فيكون قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) إلى قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(١) متصلا بقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزمر : ٦] المتصل بقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) [الزمر : ٥] ، ويكون ما بيناه من تمثيل حال نزول القرآن وانتفاع المؤمنين إدماجا في هذا الاستدلال. وعلى كلا الوجهين أدمج في أثناء الكلام إيماء إلى إمكان إحياء الناس حياة ثانية.
والكلام استفهام تقريري ، والخطاب لكل من يصلح للخطاب فليس المراد به مخاطبا معيّنا. والرؤية بصرية.
وقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقدم نظيره في قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) في سورة الأنعام [٩٩].
و (فَسَلَكَهُ) أدخله ، أي جعله سالكا ، أي داخلا ، ففعل سلك هنا متعد وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) في سورة طه [٥٣] ، وذكرنا هنالك أن فعل سلك يكون قاصرا ومتعدّيا ، وهذا الإدخال دليل ثان.
و (يَنابِيعَ) جمع ينبوع وهو العين من الماء ، تقدم في قوله تعالى : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) في سورة الإسراء [٩٠]. وانتصب (يَنابِيعَ) على الحال من ضمير (ماءً). وتصيير الماء الداخل في الأرض ينابيع دليل ثالث على عظيم قدرة الله.
وعطف ب (ثُمَ) قوله : (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) لإفادة التراخي الرتبي بحرف (ثُمَ) كشأنها في عطف الجمل لأن إخراج الزرع من الأرض بعد إقحالها أوقع في نفوس الناس لأنه أقرب لأبصارهم وأنفع لعيشهم وإذ هو المقصود من المطر. وهذا الإخراج دليل رابع.
والألوان : جمع لون ، واللون : كيفية لائحة على ظاهر الجسم في الضوء ، وتقدم في
__________________
(١) في المطبوعة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ*.