وجلها العارض من سماعه قبل.
واللين : مستعار للقبول والسرور ، وهو ضد للقساوة التي في قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) ، فإن المؤمن إذا سمع آيات الوعيد والتهديد يخشى ربه ويتجنب ما حذر منه فيقشعرّ جلده فإذا عقب ذلك بآيات البشارة والوعد استبشر وفرح وعرض أعماله على تلك الآيات فرأى نفسه متحلية بالعمل الذي وعد الله عليه بالثواب فاطمأنت نفسه وانقلب الوجل والخوف رجاء وترقبا ، فذلك معنى لين القلوب.
وإنما يبعث هذا اللين في القلوب ما في القرآن من معاني الرحمة وذلك في الآيات الموصوفة معانيها بالسهولة نحو قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣] ، والموصوفة معانيها بالرقة نحو : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) [الزخرف : ٦٨ ـ ٦٩] ، وقد علم في فن الخطابة أن للجزالة مقاماتها وللسهولة والرقة مقاماتهما.
الجهة الثالثة من جهات هذا الوصف : أعجوبة جمعه بين التأثيرين المتضادّين : مرة بتأثير الرهبة ، ومرة بتأثير الرغبة ، ليكون المسلمون في معاملة ربهم جارين على ما يقتضيه جلاله وما يقتضيه حلمه ورحمته. وهذه الجهة اقتضاها الجمع بين الجهتين المصرح بهما وهما جهة القشعريرة وجهة اللين ، مع كون الموصوف بالأمرين فريقا واحدا وهم الذين يخشون ربهم ، والمقصود وصفهم بالتأثرين عند تعاقب آيات الرحمة بعد آيات الرهبة. قال الفخر : إن المحققين من أهل الكمال قالوا : «السائرون في مبدأ جلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا ، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا» ا ه ـ. فالآية هنا ذكرت لهم الحالتين لوقوعها بعد قوله : (مَثانِيَ) كما أشرنا إليه آنفا ، وإلا فقد اقتصر على وصف الله المؤمنين بالوجل في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) في سورة [الأنفال : ٢] ، فالمقام هنا لبيان تأثر المؤمنين بالقرآن ، والمقام هنالك للثناء على المؤمنين بالخشية من الله في غير حالة قراءة القرآن.
وإنما جمع بين الجلود والقلوب في قوله تعالى : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) ولم يكتف بأحد الأمرين عن الآخر كما اكتفي في قوله : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) لأن اقشعرار الجلود حالة طارئة عليها لا يكون إلا من وجل القلوب وروعتها فكنّي به عن تلك الروعة.