ارتاع وخشي اقشعرّ جلده من أثر الانفعال الرهبني ، فمعنى (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ) تقشعر من سماعه وفهمه ، فإن السماع والفهم يومئذ متقارنان لأن السامعين أهل اللسان. يقال : اقشعر الجلد ، إذا تقبض تقبضا شديدا كالذي يحصل عند شدة برد الجسد ورعدته. يقال : اقشعر جلده ، إذا سمع أو رأى ما يثير انزعاجه وروعه ، فاقشعرار الجلود كناية عن وجل القلوب الذي تلزمه قشعريرة في الجلد غالبا.
وقد عدّ عياض في «الشفاء» من وجوه إعجاز القرآن : الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لعلوّ مرتبته على كل كلام من شأنه أن يهابه سامعه ، قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر : ٢١].
وعن أسماء بنت أبي بكر كان أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم. وخص القشعريرة بالذين يخشون ربهم باعتبار ما سيردف به من قوله : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ) كما يأتي ، قال عياض : «وهي ، أي الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعه ، على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه كما قال تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء : ٤٦].
وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام ، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة. حكي
في الحديث الصحيح عن جبير بن مطعم قال : «سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) إلى قوله : (الْمُصَيْطِرُونَ) [الطور : ٣٥ ـ ٣٧] كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي».
ومنهم من لم يسلم ، روي عن محمد بن كعب القرظي قال : «أخبرت أن عتبة بن ربيعة كلّم النبي صلىاللهعليهوسلم في كفّه عن سبّ أصنامهم وتضليلهم ، وعرض عليه أمورا والنبي صلىاللهعليهوسلم يسمع فلما فرغ قال له النبي صلىاللهعليهوسلم : اسمع ما أقول ، وقرأ عليه (حم) فصلت [١] حتى بلغ قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] فأمسك عتبة على فم النبي صلىاللهعليهوسلم وناشده الرحم أن يكفّ» أي عن القراءة.
وأما المؤمن فلا تزال روعته وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذابا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه ، قال تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ).
الجهة الثانية من جهات هذا الوصف : لين قلوب المؤمنين عند سماعه أيضا عقب