وتُرِيدُونَ) يدلّ على انّ الخطاب في الم تعلم لمحمّد (ص) والمقصود هو وأمّته اختصّ بالخطاب لكونه أشرف وأصلا ، أو الخطاب لغير معيّن حتّى يفيد العموم البدلىّ ويوافق المعاد لان في المسند اليه والمعنى الم تعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير الم تعلموا انّ الله مالك الكلّ والمالك يتصرّف في ملكه كيف يشاء ، أم تعلمون ذلك وتريدون (أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) وتحاجّوه عالمين عامدين (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) فأخذت السّائلين الصّاعقة فأهلكوا وفيه تهديد لهم بمثل العقوبة الّتي عوقبت بها أصحاب موسى (ع) حيث قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) بعد العلم الّذي من شأنه ان يكون صاحبه مقرّا مؤمنا أو بعد جواب الرّسول له انّ ما سأله لا يصلح اقتراحه ، أو بعد ما أظهره الله له ما اقترح ، أو بعد ما شاهد آيات الرّسول والجملة حال أو عطف على جملة ما ننسخ من آية (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) يعنى انّ الآخذ للكفر بعد ما ذكر كأنّه كان على السّبيل المستوى وضلّ عنه ولذا استعمل التّبدّل الّذى يشعر بأنّه كان على الايمان أو مشرفا على الايمان فتركه وأخذ الكفر (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) بإلقاء الشبهات وتحريف الكلمات وتعيير الضّعفاء وتثريب المعجزات.
اعلم انّه كلّ من اختار سيرة حقّة أو باطلة يودّ ان يكون النّاس كلّهم على سيرته وهذا أمر مفطور عليه للإنسان بل لكلّ شيء من الملائكة والجنّة والشّياطين والعناصر والمواليد فان كان الإنسان واقفا في جهنّام النّفس والحسد من جنودها ولا ينفكّ عنها كان حسده أيضا باعثا عليه ، وان كان من أرباب القلوب كان رحمته باعثة عليه أيضا ولذا أضاف اليه قوله تعالى (حَسَداً) مفعول له أو حال (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يعنى ودّوا ذلك من حسدهم ومن اقتضاء فطرتهم على ان يكون الظرّف متعلّقا بقوله تعالى ودّ ، أو المعنى ودّوا من حسد حاصل لهم من أنفسهم الخبيثة من دون سبب آخر على ان يكون ظرفا مستقرّا صفة لحسدا (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) بالدّلائل المعلومة لهم من كتبهم وأخبارهم وبالمعجزات المشهودة لهم من محمّد (ص) (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) الفاء سببيّة كأنّه قال : هذه الفعلة صارت سببا للأمر بالعفو والصّفح فكأنّه جزاء أو هو جزاء حقيقة لشرط مقدّر تقديره هكذا : ان فعلوا ذلك فاعفوا ، والعفو ترك الانتقام من الجاني ، والصّفح تطهير القلب من حقده ، وكأنّهما كالفقراء والمساكين ؛ إذا افترقا يجوز ان يراد بكلّ مجموع المعنيين ، وإذا اجتمعا يراد بكلّ معناه المذكور ، والمقصود الأمر بترك مقابلة حسدهم وتثريبهم بالحسد والتّثريب وتطهير القلب من الحقد عليهم ، فانّ مقابلة الجهّال بمثل جهلهم يستلزم تنزّل الإنسان الى مقامهم وصيرورته مثلهم وازدياد جهلهم وعنادهم ، واللّبيب لا يرضى التّماثل معهم ولا ازدياد الجهل والعناد من العباد ، والحقد على الكافر والمؤمن يمنع القلب عن التوجّه الى أمور الآخرة ويذهب براحة القلب ويأكل ما اكتسبه من الخيرات ويمنع عن النّصح المطلوب من كلّ أحد والتّرحم المأمور به ، ويوجب الإضلال المنهىّ عنه على انّ تثريب العباد والحقد عليهم يرجع الى تثريب صنع الله ، وتثريب الصنّع تثريب للصّانع (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فيهم بالقتل يوم فتح مكّة كما في تفسير الامام ، أو بالهداية لهم ، أو بضرب الجزية عليهم ، أو بالقتل والأسر والاجلاء فيهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على ذلك كلّه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يعنى بعد ما سلم مدارككم وجوارحكم