ايمانا (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تعليل للسّابق والرّأفة كالرّحمة لفظا ومعنى لكنّها هنا أشدّ الرّحمة أو أرقّها أو الأثر الظّاهر من الرّحمة وفي حديث : قال المسلمون للنّبىّ بعد ما انصرف الى الكعبة أرأيت صلواتنا الّتى كنّا نصلّى الى بيت المقدّس ما حالنا فيها وحال من مضى من أمواتنا وهم يصلّون الى بيت المقدّس فأنزل وما كان الله ليضيع ايمانكم (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) ابتداء كلام منه تعالى لابداء حكم ولذا لم يأت بأداة الوصل كأنّه (ص) بعد ما انزجر من اليهود وما قالوه فيه وفي توجّهه في صلوته الى قبلتهم كان يسأل ربّه تحويل وجهه في الصّلوة ومن شأن السّائل المتضرّع ان يقلّب وجهه في جهة المسؤل وكأنّه كان يريد الكعبة لأنّها كانت قبلة إبراهيم (ع) وبناءه ومولد علىّ (ع) وموطنه وموطن نفسه (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) في صلوتك وهي الكعبة وانّما يرضيها للميل الفطرىّ الّذى يكون للإنسان بالنّسبة الى موطنه ومولده وموطن آبائه وآثار أجداده ولأنّها كانت مرجعا للعرب والتّوجّه إليها يقتضي رغبتهم الى دين الإسلام (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) اى الحرام هتكه ، والحرام امّا مشترك بين المصدر والصّفة أو في الأصل مصدر يستعمل في معنى الصّفة والمسجد الحرام جزء من الحرم كما انّ الكعبة جزء من المسجد ، والكعبة قبلة أهل الحرم والحرم قبلة أهل العالم كما روى فالمراد بالمسجد الحرام امّا تمام الحرم من باب استعمال الجزء في الكلّ أو المسجد نفسه ، ولم يقل شطر الكعبة لأنّ المعتبر من القبلة للبعيد هو استقبال الجهة الّتى يكون البيت فيها لا استقبال عين البيت وهذا المعنى يستفاد من شطر المسجد مع انّ فيه تطبيقا للتّنزيل على التّأويل والمعنى ولّ وجه بدنك شطر المسجد الحرام الصّورىّ ووجّه نفسك شطر المسجد الحرام الّذى هو الصّدر المنشرح بالإسلام الّذى فيه كعبة القلب في حال الصّلوة البدنيّة وفي حال الصّلوة النّفسيّة الّتى هي كلّ الأحوال. وفي الخبر انّ النّبىّ (ص) بعد ما اغتمّ بقول اليهود انّ محمّدا (ص) تابع لقبلتنا خرج في بعض اللّيل يقلّب وجهه في السّماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظّهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له : قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلة ترضيها فوّل وجهك شطر المسجد الحرام ثمّ أخذ بيد النّبىّ (ص) فحوّل وجهه الى الكعبة وحوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرّجال مقام النّساء والنّساء مقام الرّجال فكان أوّل صلوته الى بيت المقدّس وآخرها الى الكعبة فسمّى ذلك المسجد مسجد القبلتين (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خصّه (ص) اوّلا بالخطاب تعظيما لشأنه (ص) وتنبيها على اجابة مسئوله وعلى مراعاة رغبته وانّ الحكم له (ص) بالأصالة ولامّته بالتّابعيّة ثمّ عمّم الحكم والخطاب للأمّة والأمكنة كلّها ان كان الرّسول (ص) داخلا في المخاطبين أو صرف الخطاب عنه الى أمّته وخاطبهم للاشارة الى عموم الحكم وأنّه ليس له (ص) خاصّة ؛ وهذا الوجه هو الأنسب ، لأنّه تعالى كرّر هذا الحكم وفي كلّ من مراتب التّكرار ذكر الرّسول (ص) وحده ثمّ ذكر الأمّة وعلّق الحكم حين ذكر الرّسول (ص) على ما يناسب شأنه وحين ذكر الامّة على ما يناسب شأنهم كما سنذكره (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والمراد بالكتاب الشّريعة الإلهيّة من اىّ نبىّ كانت أو كتاب التّوراة والإنجيل والجملة حال أو عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : فانّه حقّ من ربّكم وانّ الّذين أوتوا الكتاب (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) اى التّحويل أو التّوجّه أو شطر المسجد أو المسجد من حيث التّوجّه (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لأنّهم أهل شرائع الهيّة وكلّ من دخل في شريعة الهيّة يعلم انّ احكام كلّ شريعة مغايرة لشريعة أخرى ، وبعض ما في شريعة