والإتيان بالمضارع مع انّ توافق المتعاطفين اولى من تخالفهما للاشعار بأنّ التّزيين وقع وبقي اثره في انظارهم وامّا السّخريّة فهي أمر متجدّد على سبيل الاستمرار (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) اى المؤمنون بالولاية فانّ التّقوى الحقيقيّة ليست الا لمن قبل الولاية ودخل في الطّريق الى الله كما حقّق في اوّل السّورة ووضع الظّاهر موضع المضمر لذكرهم بوصف آخر والتّعريض بالمنافقين والاشعار بعلّة الحكم وهي جملة حاليّة أو معطوفة على يسخرون. والتّخالف للتّأكيد والثّبات في الثّانية ، أو الّذين اتّقوا عطف على الّذين آمنوا عطف المفرد ، وقوله تعالى (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) حال منه يعنى ان كانوا في الدّنيا تحت حكمهم في بعض الأوقات فهم في الآخرة فوق المنافقين حكما وشرفا ومنزلا (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) اى يرزقهم فانّ الإتيان به في هذا المقام إظهار للامتنان على المؤمنين بانّ الفوقيّة بالنّسبة الى المنافقين ادنى شأن لهم فانّ الله يرزقهم من موائد الآخرة ما لا يقدر على حسابه المحاسبون ، وعلى هذا فوضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بتشريفهم بكونهم مرضيّين لله ، وقيل : فيه أشياء آخر (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) جواب لسؤال ناش من السّابق كأنّه قيل : هل كان النّاس متّفقين؟ ـ ومن اين وقع هذا الاختلاف؟ ـ فقال تعالى : كان النّاس أمّة واحدة تابعة لمشتهياتهم محكومة لأهويتهم غافلة عن ربّهم ومبدئهم ومعادهم كما يشاهد من حال الأطفال في اتّباع الشّهوات من غير زاجر عنها ، وكما يشاهد من حال أهل العالم الصّغير قبل إيجاد آدم (ع) وإسكانه جنّة النّفس فانّهم يكونون أمّة واحدة محكومة بحكم الشّياطين (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) في العالم الكبير والصّغير (مُبَشِّرِينَ) للمنقادين بجهة ولايتهم (وَمُنْذِرِينَ) للكافرين بجهة رسالتهم فاختلفوا بالإنكار والإقرار ، واختلف المنكرون بحسب مراتب الإنكار ، والمقرّون بحسب مراتب الإقرار (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) يعنى الأحكام الإلهيّة اللّازمة للرّسالة ، أو الكتاب التّدوينىّ المشتمل على الأحكام فانّه لا يصدق الرّسالة الّا إذا كان مع الرّسول احكام أرسل بها (بِالْحَقِ) بسبب الحقّ المخلوق به الّذى هو علويّة علىّ (ع) وولايته المطلقة ، أو مع الحقّ أو الباء للآلة وعلى اىّ تقدير فالجارّ والمجرور ظرف لغو متعلّق بأنزل وجعله حالا محتاجا الى تقدير عامل مستغنى عنه بعيد جدّا (لِيَحْكُمَ) الله على لسان النّبيّين أو ليحكم الكتاب على طريق المجاز العقلىّ وقرئ ليحكم مبنيّا للمفعول (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) يعنى بعد بعث النّبيّين اختلفوا فأنزل الكتاب لرفع الاختلاف وهو دليل تقدير ، فاختلفوا بعد قوله تعالى منذرين فانّ عدم انفكاك الأحكام عن الرّسالة مع كونها لرفع الاختلاف وكون النّاس قبل الرّسالة أمّة واحدة دليل حدوث الاختلاف بالرّسالة والمراد بما اختلفوا فيه هو الحقّ الّذى انزل الكتاب به وهو النّبأ العظيم الّذى هم فيه مختلفون (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) في الحقّ أو الكتاب الّذى انزل بالحقّ (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) وامّا غيرهم فحالهم في الغفلة وكونهم أمّة واحدة حال النّاس قبل البعثة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) الحجج الواضحات لا قبل إتمام الحجّة فليس اختلاف المنكر مع المقرّ الّا عن عناد ولجاج لا عن شبهة واحتجاج ولذا قال تعالى (بَغْياً) ظلما واستطالة واقعة (بَيْنَهُمْ) يعنى انّ المنكرين لم ينكروا الحقّ بشبهة سبقت الى قلوبهم ولا لعنادهم للحقّ بل الإنكار انّما هو للاستطالة والتّعدّيات الّتى بينهم فإقرار المقرّ صار سببا لانكار المنكر (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بعد الهداية أو كان فيهم قوّة الإذعان والموافقة لا الّذين كان فيهم قوّة الاستطالة