به العوامّ فلتخليص الانسانيّة اى تلك الحقيقة عن الحدود المخالفة لحدود الانسانيّة ، وان كان ممّا يخاطب به الأنبياء (ع) والأولياء (ع) فلتخليص الانسانيّة عن الحدود جملة وإيصالها الى الظّهور من غير حدّ ، ومن هذا يعلم انّ اللّوم واجراء الحدود والأمر والنّهى لا يجوز الّا ممّن له شأنيّة التّخليص بان يكون ممّن خلص نفسه اوّلا من حدّ يريد تخليص الغير منه وأبصر ذلك الحدّ وقوى على التّخليص ولو فاته شيء من هذه لم يجز منه ذلك ، ولمّا لم يكن الإنسان يدرك بنفسه انّ له هذا المقام احتاج الى اجازة البصير المحيط به على انّ الاجازة بها ينعقد قلب المأمور على أمر الآمر ولو لا الاجازة لا ينعقد ، ولمّا كان الأفعال منسوبة الى الله تعالى اوّلا وبالذّات والى أنحاء الوجودات ثانيا وبالعرض صحّ سلب أفعال العباد عنهم واسنادها الى الله مثل قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، حيث نفى القتل الصّادر منهم عنهم وأثبته لله بطريق حصر القلب أو الإفراد ، وهكذا قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، ولمّا كان إقرار اللّسان من دون موافقة الجنان كذبا ومذموما أنكر تعالى على من تفوّه بمثل هذا من غير تحصيل بقوله (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) على أنّهم أرادوا بذلك دفع اللّوم عن أنفسهم بتعليق الإشراك والتّحريم على المشيّة وقد علم ممّا سبق انّ التعليق على المشيّة لا يوجب الجبر ولا يدفع اللّوم عن الفاعل ان كان الفعل ممّا يلام عليه ولذا ثبت تعالى بعد الإنكار عليهم ما قالوه فقال : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.) واعلم انّ للآثار ثلاثة اعتبارات : اعتبار الإطلاق ؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المطلقة اولى ، واعتبار التقييد بالحدود من دون اعتبار الحدود معها ؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المقيّدة اولى ، واعتبار التّقييد بالحدود واعتبار الحدود معها ؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المقيّدة المعتبر معها التعيّنات والحدود الّتى هي الموجودات اولى ، ولمّا كان الإنسان في طاعاته منسلخا من أنانيّته وحدودها متوجّها الى مولاه وامره كان اسناد طاعاته الى الله اولى ، ولمّا كان في معصيته متحدّدا بحدود انّانيّته كان نسبة معاصيه الى نفسه اولى كما أشير اليه في الحديث القدسي ، ومن هذا يعلم انّ العابد لو كان غرضه من العبادة انتفاع نفسه ولو بالقرب من الله لم يكن طاعته طاعة حقيقة لانّ قصد انتفاع النّفس ليس الا باقتضاء الانانيّة.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) بعد حصر الأفعال في الله تعالى كأنّه قيل : فما لنا لا نرى الأفعال الّا من العباد؟ ومن اين يعلم انّ الفاعل هو الله؟ فناداهم وقال : ان أردتم ان تعلموا انّ الأفعال منحصرة في الله فأنفقوا ممّا رزقناكم من الأموال والقوى والاعراض وبالجملة كلّما يزيد في انانيّاتكم وحدودها الّتى تحجبكم عن مشاهدة الموجودات كما هي ، ولمّا كان الإنفاق من أصعب العبادات جبر كلفته بلذّة النّداء (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) يعنى لا مال فيه يفتدي به من العذاب (وَلا خُلَّةٌ) نافعة فانّ يوم الموت وهو المراد هاهنا لا ينفع فيه خليل خليلا ، ويوم القيامة يكون الاخلّاء فيه بعضهم لبعض عدوّ الّا الخليل في الله ، ولا يكون الّا بعد إنفاق الحدود والحجب (وَلا شَفاعَةٌ) وهذا يدلّ على انّ المراد به يوم الموت والّا فيوم القيامة تنفع فيه شفاعة الشّافعين (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) امّا عطف على لا بيع فيه بتقدير العائد اى من قبل ان يأتى يوم يظهر فيه انّ الظلم منحصر بالكافرين المحجوبين عن مشاهدة نسبة الأفعال الى الله ، أو حال بهذا