انّ إبراهيم كان يهوديّا ، فقال : انّ بيننا وبينكم التّوراة فأبوا من الرّجوع إليها بعد محاجّات وقعت بينهم ، ونسب في مجمع البيان الى ابن عبّاس انّه قال : ان رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكانا ذوي شرف فيهم وكان في كتابهم الرّجم فكرهوا رجمهما لشرفهما ورجوا ان يكون عند رسول الله (ص) رخصة في أمرهما ، فرفعوا أمرهما الى رسول الله (ص) فحكم عليهما بالرّجم فقالوا جرت يا محمّد ليس عليهما الرّجم فقال (ص) : بيني وبينكم التّوراة ، قالوا قد أنصفتنا قال : فمن أعلمكم بالتّوراة؟ ـ قالوا : ابن صور يا ساكن فدك فأرسلوا اليه فقدم المدينة وكان جبرئيل قد وصفه لرسول الله (ص) الى ان قال فدعا رسول الله (ص) بشيء من التّوراة فيها الرّجم مكتوب فقال له : اقرء فلمّا أتى على آية الرّجم وضع كفّه عليها وقرأ ما بعدها فقال ابن سلام يا رسول الله (ص) قد جاوزها وقام الى ابن صوريا ورفع كفّه عنها ثمّ قرأ على رسول الله (ص) وعلى اليهود بانّ المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البيّنة رجما ، فأمر رسول الله (ص) باليهوديّين فرجما ، فغضب اليهود وأنكروا على ابن صوريا فأنزل الله هذه الآية (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) والحال انّ سجيّتهم الاعراض عن الحقّ مطلقا (ذلِكَ) التولّى والاعراض (بِأَنَّهُمْ) سهّلوا على أنفسهم عقوبة الآخرة و (قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) قيل يعنى عدد ايّام عبادة أسلافهم العجل أربعين يوما أو سبعة ايّام وقيل ايّاما منقطعة (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من انقطاع العذاب أو قولهم : نحن أبناء الله واحبّاؤه ، أو ان آبائهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو انّ الله وعد يعقوب ان لا يعذّب أولاده (فَكَيْفَ) حالهم تهويل لهم وتفخيم لعذابهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ) في يوم أو لمجازاة يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) لا ينبغي الرّيب فيه روى انّ اوّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفّار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤس الاشهاد ثمّ يأمر بهم الى النّار (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ادّيت إليها تمام ما كسبت على تجسّم الأعمال أو تمام جزاء ما كسبت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب.
اعلم انّ النفوس البشريّة تكسب فعلية من الأعمال البدنيّة والرّياضات النّفسيّة وتلك الفعليّة ليست كيفيّة عرضيّة كما يظنّ بل هي شأن جوهريّ من شؤن النّفس على ما حقّق في الفلسفة من الحركات الجوهريّة وذلك الشّأن ان يبق للنّفس بعد رفع حجب الطّبع بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ يتمثّل بصورة موافقة له مملوكة للنّفس وهذا معنى تجسّم الأعمال ويتفضّل الله على صاحبها بمثل تلك الصورة أو يضعف عذابها بمثلها على اختلاف الكسب وهذا أحد وجوه الجنّتين في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) واحد وجوه قوله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) والتّوفية تأدية تمام ما ينبغي ان يؤدّى وعلى هذا جاز ان يقال أعطاه الله نفس ما كسبت وان يقال أعطاه الله جزاء ما كسبت وحبط الأعمال ومحو السيّئات عبارة عن بطلان تلك الفعليّة وانمحاؤها عن صفحة النّفس ، وتبديل السيّئات حسنات عبارة عن تسخير تلك الفعليّة للعاقلة بعد ان كانت مسخرة للشّيطان والعفو عن السيّئات وغفرانها عبارة عن بقاء تلك الفعليّة مع سترها عن الانظار وعدم تمثّلها وعدم ظهورها بصورة مناسبة لها.
(قُلِ اللهُمَ) أصله يا الله حذف اداة النّداء وأتى بالميم المشدّدة في الآخر عوضا عنها تعظيما لاسمه الشّريف ان يؤتى بصورة النّداء وتفخيما للفظه واشعارا باشتداد المحبّة فانّ شدّة الحبّ كشدّة الغضب تقتضي التّشديد في اللّفظ وقيل أصله يا الله امّ بخير فخفّف بحذف حرف النّداء وهمزة القطع وعدم التفوّه بهذا الأصل