صدق الإصرار على القبيح هو علم الفاعل بقبحه لا قبحه في نفس الأمر فلو اشتبه الاجنبيّة واصرّ على المضاجعة معها لم تكن معصية ولا الإصرار عليها إصرارا على القبيح (أُولئِكَ) الإتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضارهم باوصافهم العظيمة ولتفخيم شأنهم (جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ) هذه الجملة تأكيد لما استفيد من قوله (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) فانّه أفاد انّ الجنّة والمغفرة جعلت نزل المتّقين لانّها كانت جزاءهم ولكونها في مقام التّأكيد أتى بها مؤكّدة باسميّة الجملة وتكرار النّسبة بجعلها ذات وجهين كبري وصغرى وبسط في الكلام ولم ـ يكتف بذكر المغفرة والجنّة وجمع الجنّات ووصفها بقوله تعالى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ومدحها بما يرتفع المنّة به عنهم وانّها أجر عملهم فقال : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المغفرة والجنّات ، روى انّه لمّا نزلت هذه الآية صعد إبليس جبلا فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا اليه فقالوا : يا سيّدنا لما دعوتنا؟ ـ قال : نزلت هذه الآية فمن لها؟ ـ فقام عفريت من الشّيطان فقال : انا لها بكذا وكذا ، قال لست لها ، فقام آخر فقال مثل ذلك ، فقال : لست لها ، فقال الوسواس الخنّاس : أنالها ، قال بماذا؟ ـ قال أعدهم وامنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فاذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار فقال : أنت لها ، فوكّله بها الى يوم القيامة (قَدْ خَلَتْ) استيناف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا للمتّقين فما لغيرهم؟ ـ فقال : قد خلت اى مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) جمع السنّة وهي السيرة والطّريقة والمقصود انّه مضت طرائق كانت عليها الأمم الماضية من المتّقين المصدّقين والفاسقين المكذّبين (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض عالم الطّبع لاستعلام سير المصدّقين والمكذّبين حتّى تعلموا حالهما وعملهما وصنع الله فيهما وفي اعقابهما في الدّنيا والآخرة بمشاهدة آثار صنع الله بهما وباستعلام اخبار الأنبياء بحالهما في الآخرة ثمّ تفكّروا (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) حتّى تعتبروا من حالهم وتجتنبوا مثل أفعالهم ، أو سيروا في ارض القرآن والكتب السّماويّة ، أو في ارض اخبار الأنبياء وأوصيائهم ، أو في ارض السّير والتّواريخ ، أو في ارض وجودكم وعالمكم الصّغير فانّ أهل عالمكم الماضين كلّ منهم في مقامهم كانوا مدّعين للانانيّة والاستقلال ومكذّبين بلسانهم الحالىّ لمن يقول أنتم في الطّريق والهلاك من هذه الحيوة ولا بدّ لكم الفناء من هذا الوجود ثمّ البقاء والحيوة بوجود آخر أشرف وأكمل (هذا) القرآن بآياته أو هذا المذكور من ذكر حال المتّقين ومآلهم وذكر المكذّبين والاشارة الى عاقبتهم الفضيحة ، أو هذا المذكور من السّنن الماضية من المتّقين والمكذّبين ، أو السّير في الأرض ، أو فضيحة عاقبة المكذّبين (بَيانٌ) اى ظاهر أو مظهر أو إظهار (لِلنَّاسِ) عامّة (وَهُدىً) هاد أو هداية (وَمَوْعِظَةٌ) واعظ أو وعظ (لِلْمُتَّقِينَ) خاصّة فانّ شرط الهداية والوعظ قبول القابل لانّهما أمران اضافيّان (وَلا تَهِنُوا) عطف على سارعوا لانّ الفاصل بينهما من متعلّقات المعطوف عليه اى لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم يوم أحد وقد أصبتم مثليه يوم بدر (وَلا تَحْزَنُوا) على قتلاكم لانّهم بلغوا بالقتل مقاماتهم العالية من الجنان وعانقوا أزواجهم من الحور العين ، ولا على ما فات منكم من الغنيمة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) بالصّعود على الجبل أو أنتم الأعلون شأنا لانّكم على الحقّ وعدوّكم على الباطل وقتلاكم في الجنّة وقتلاهم في النّار ، أو أنتم الأعلون في العاقبة بالغلبة عليهم وعلى اىّ تقدير فهو تسلية قيل : نزلت الآية تسلية للمؤمنين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح ، وقيل : لمّا انهزم المسلمون اقبل خالد بن وليد بخيل من