إنه لأغرب خبر يمكن للإنسان أن يسمعه في مثل ذلك الظرف وتلك الحالة ، وبين فئتين لا تكافأ بينهما ، فئة تملك كل وسائل البطش والقوة ، وفئة ضعيفة لا تملك شيئا لا لغيرها ولا لنفسها .. وهي في حالة اضطهاد وتشرد واستعباد ، ومع ذلك يأتي هذا الخبر المرعب المفزع ، الغريب المستنكر في ميزان جميع العقول المادية ، وجميع الاحتمالات والتقديرات ... ، فإنه لا يمكن لأي عاقل أن يتنبأ مثل هذا النبأ في مثل ذلك الظرف.
ويهلل المسلمون لهذا الخبر ، وترتسم على وجوههم علامة الفرح بهذه البشارة ، وكأنهم يرونها رأي العين .. ويحيى الأمل في نفوسهم .. وتغمر الطمأنينة قلوبهم ، ويعدون الأيام والليالي لاستقبال ذلك اليوم الذي يتحقق فيه هذا الخبر الذي أيقنوا به ...
ويزداد بأس قريش ، ويتضاعف أذاها ، وتطارد ضعاف المسلمين في كل ناحية وصوب .. مما دفع المسلمين للهجرة إلى الحبشة.
ويهاجر المسلمون إلى الحبشة ، وتطاردهم قريش فيها ، تريد استئصال شأفتهم ، وتبديد شملهم.
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويحقق وعده ، فتقوم دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة ، على عاتق أولئك الضعفاء من المهاجرين والأوفياء من الأنصار ، وسرعان ما تدور الدائرة على المشركين في مكة ، وتتغير الموازين عندهم ، وتتلاشى طموحاتهم وأحلامهم ، إذ أعلنوا النفير العام ، ولكن ليس للهجوم في هذه المرة .. وإنما للدفاع عن تجارتهم القادمة من الشام مع أبي سفيان ، والتي عزم المسلمون على مهاجمتها.
وتتطور الأمور ، لتنكشف عن أعظم معركة في التاريخ ، وأغرب معركة في ميزان العقل المادي .. إذ هزم أولئك الضعفاء المهاجرون ، والفقراء الجياع ، هزموا جيش المشركين في بدر ، وقد بلغ في العدد ثلاثة أضعافهم ، مع ما لديهم من العدد ، وكان أول إعلان عن تحقيق وعد الله ، وصدق نبوءة القرآن.