الذي كتب به القرآن ، فانتظم حروفا ورقوما هو بعينه كلام الله تعالى ، وقد صار قديما ، بعد ما كان حادثا ، ولما رأت الكرامية أن بعض الشر أهون من البعض ، وأن مخالفة الضرورة أشنع من مخالفة الدليل ، ذهبوا إلى أن المنتظم من الحروف المسموعة مع حدوثه قائم بذات الله تعالى ، وأنه قول الله تعالى لا كلامه ، وإنما كلامه قدرته على التكلم وهو قديم ، وقوله حادث لا محدث ، وفرقوا بينهما ، بأن كل ما له ابتداء إن كان قائما بالذات فهو حادث بالقدرة غير محدث ، وإن كان مباينا للذات فهو محدث بقوله كن لا بالقدرة ، والمعتزلة لما قطعوا بأنه المنتظم من الحروف ، وأنه حادث ، والحادث لا يقوم بذات الله تعالى. ذهبوا إلى أن (١) معنى كونه متكلما أنه خلق الكلام في بعض الأجسام ، واحترز بعضهم عن إطلاق لفظ المخلوق عليه لما فيه من إيهام الخلق (٢) والافتراء ، وجوزه الجمهور ثم المختار عندهم ، وهو مذهب أبي هاشم (٣) ومن تبعه من المتأخرين أنه من جنس الأصوات والحروف ، ولا يحتمل البقاء حتى إن ما خلق مرقوما (٤) في اللوح المحفوظ أو كتب في المصحف لا يكون قرآنا ، وإنما القرآن ما قرأه القارئ ، وخلقه الباري من الأصوات المتقطعة والحروف المنتظمة ، وذهب الجبائيّ إلى أنه من جنس غير الحروف تسمع عند سماع الأصوات ، وتوجد بنظم الحروف ، وبكتبها ، ويبقى عند المكتوب والحفظ ، ويقوم باللوح المحفوظ وبكل مصحف ، وكل لسان ، ومع هذا فهو واحد لا يزداد بازدياد المصاحف ، ولا ينقص بنقصانها ، ولا يبطل ببطلانها.
والحاصل أنه انتظم من المقدمات القطعية والمشهورة قياسان ينتج أحدهما : قدم كلام الله تعالى. وهو أنه من صفات الله تعالى ، وهي قديمة. والآخر حدوثه ، وهو أنه من جنس الأصوات وهي حادثة ، فاضطر القوم إلى القدح في أحد القياسين ، ومنع
__________________
(١) سقط من (ب) حرف (أن)
(٢) في (ب) الخلف بدلا من (الخلق).
(٣) هو : عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ من أبناء أبان مواي عثمان من كبار المعتزلة له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت (البهشمية) نسبة إلى كنية أبي هاشم وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله توفي سنة ٣٢١ ه.
راجع المقريزي ٢ : ٣٤٨ ، ووفيات الأعيان ١ : ٢٩٢ والبداية والنهاية ١١ : ١٧٦
(٤) في (ب) برقومة بدلا من (مرقوما).