القائلون بأن أفعال العباد واقعة بخلقهم وإيجادهم استقلالا ، افترقوا فرقتين. فأبو الحسين البصري وأتباعه ، ادعوا أن هذا الحكم ضروري مكروز في عقول العقلاء المنصفين الخالين عن (١) تقليد أسلافهم ، وذكروا في ذلك وجوها على قصد التنبيه أو الاستدلال ، فإنه ربما يكون الحكم ضروريا ، والحكم بضروريته ، استدلاليا.
الأول : أن كل أحد يفرق بالضرورة بين حركاته الاختيارية كالمشي على الأرض ، والصعود إلى الجبل ، والاضطرارية كالارتعاش ، والسقوط من السطح ، وما ذاك إلّا بأن الأولى بقدرته وإيجاده بخلاف الثانية.
الثاني : أن كل أحد يعلم بالضرورة أن تصرفاته واقعة بحسب قصده وداعيته ، كالإقدام على الأكل والشرب عند اشتداد الجوع ، والإحجام عنهما إذا علم أن في الطعام والماء سما ، ولا معنى لوجود الفعل بالاختيار إلا الذي يحدث منه الفعل على وفق دواعيه.
الثالث : أن كل فاعل يعلم (٢) بالضرورة حسن مدح من أحسن إليه وذم من أساء ، ولو لا أنه (٣) يعلم بالضرورة كونه المحدث لتلك الأفعال لما حكم بذلك ، كما لا يحكم بحسن المدح والذم على ما ليس من أفعاله ، ولهذا إذا رمى العاقل ندم الرامي لا الآخرة.
الرابع : أنه يعلم بالضرورة صحة القيام أو المشي من الصحيح البنية لا من الزمن والمقعد بناء على صحة حدوثهما من الأول دون الثاني ، وإذا كان الفرع ضروريا ـ فالأصل بطريق الأولى.
الخامس : أنه يعلم بالضرورة أنه يصح منه تحريك المدرة دون الجبل ، ولا معنى لهذا سوى العلم بقدرته على تحريكها دونه ، ولهذا يقصد الحمار طرف الجدول (٤) الضيق دون الواسع.
__________________
(١) في (ب) من بدلا من (عن).
(٢) في (ب) عاقل بدلا من (فاعل).
(٣) في (ب) ولو بدلا من (لو لا).
(٤) في (أ) طفر بدلا من (طرف) وهو تحريف.