يشير إلى تحرير محل النزاع على ما هو رأي المحققين من أصحابنا ، فإنه حكى عن بعضهم تجويز تكليف المحال حتى الممتنع لذاته ، كجعل القديم محدثا وبالعكس ، وعن بعضهم أن تكليف ما علم الله تعالى عدم وقوعه أو أراد ذلك أو أخبر به كلها تكليف ما لا يطاق.
فنقول مراتب ما لا يطاق ثلاثة أدناها ما يمتنع بعلم الله تعالى بعدم وقوعه ، أو لإرادته ذلك أو لإخباره بذلك ، ولا نزاع في وقوع التأليف به فضلا عن الجواز فإن من مات على كفره ، ومن أخبر الله تعالى بعدم إيمانه يعد عاصيا إجماعا وأقصاها ما يمتنع لذاته كقلب الحقائق ، وجمع الضدين أو النقيضين. وفي جواز التكليف به تردد بناء على أنه يستدعي تصور المكلف به واقعا ، والممتنع هل يتصور واقعا ،؟ فيه تردد.
فقيل : لو لم يتصور لم يصح الحكم بامتناع تصوره وقبل تصوره. إنما يكون على سبيل التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع. ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن بين السواد والبياض أو على سبيل النفي بأن يحكم العقل بأنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض كذا في الشفاء (١) وله زيادة تحقيق وتفصيل أوردناها في شرح الأصول.
والمرتبة الوسطى ما أمكن في نفسه لكن لم يقع متعلقا لقدرة العبد أصلا كخلق الجسم أو عادة كالصعود إلى السماء ، وهذا هو الذي وقع النزاع في جواز التكليف به بمعنى طلب تحقيق الفعل والإتيان به ، واستحقاق العقاب على تركه لا إلى قصد التعجيز ، وإظهار عدم الاقتدار على الفعل كما في التحدي بمعارضة القرآن ، فإنه لا خفاء في وجوب كونه مما لا يطاق.
فإن قيل : تكليف الجماد ليس بأبعد من هذا لجواز أن يخلق الله تعالى فيه الحياة والعلم والقدرة. فكيف لم يقع النزاع في امتناعه حتى للقائلين بجواز تكليف الممتنع لذاته.
__________________
(١) كتاب الشفاء في المنطق : لأبي علي حسين بن عبد الله المعروف بابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ ه في ثمانية عشر مجلدا وشرحه أبو عبد الله محمد بن أحمد الأديب التجاني صاحب تحفة العروس ، واختصره شمس الدين عبد الحميد بن عيسى (الخسروشاهي التبريزي) المتوفى سنة ٦٥٢ ه راجع كشف الظنون ج ٢ ص ١٠٥٥.