يقال لا نسلّم أنه لو آمن لزم انقلاب العلم جهلا ، بل لزم أن يكون العلم المتعلق به من الأزل ، أنه يموت مؤمنا ، فإن العلم تابع للمعلوم ، فيكون هذا تقدير علم مكان علم لا تغيير علم إلى جهل كما إذا قدرت الآتي بالقبيح آتيا بالحسن ، فإنه يكون من أول الأمر مستحقا للمدح لا منقلبا من استحقاق الذم إلى استحقاق المدح ، لأنا نقول الكلام فيمن تحقق العلم بأنه يموت كافرا ، فعلى تقدير الإيمان يكون الانقلاب ضروريا ، وكذا الكلام فيمن أخبر الله تعالى بأنه لا يؤمن كأبي جهل (١) ، وأبي لهب وأضرابهما ، وقد عرفت أن هذا (٢) ليس من المتنازع ، فلا يكون الدليل على هذا التقرير واردا على محل النزاع وأما على تقرير كثير من المحققين ، فيدل على أن التكليف بالممتنع لذاته كجمع النقيضين جائز بل واقع.
قال إمام الحرمين في الإرشاد (٣).
فإن قيل : ما جوزتموه عقلا من تكليف المحال ، هل اتفق وقوعه شرعا.؟
قلنا : قال شيخنا ذلك واقع شرعا فإن الرب تعالى أمر أبا جهل بأن يصدقه ويؤمن به في جميع ما يخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فقد أمره أن يصدقه بأنه لا يصدقه ، وذلك جمع بين النقيضين.
وكذا ذكر الإمام الرازي في المطالب العالية (٤) وقال أيضا ، أن الأمر بتحصيل الإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان أمر يجمع الوجود والعدم ، لأن وجود الإيمان يستحيل أن يحصل مع العلم بعدم الإيمان ضرورة أن العلم يقتضي المطابقة ، وذلك بحصول عدم الإيمان ، وأجاب بعضهم بأن ما ذكر لا يدل على أن المكلف به هو الجمع ، بل تحصيل الإيمان ، وهو ممكن في نفسه مقدور للعبد بحسب أصله ، وإن امتنع لسابق علم أو إخبار للرسول بأنه لا يؤمن فيكون مما هو جائز بل واقع بالاتفاق
__________________
(١) هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزوميّ القرشيّ أشد الناس عداوة للنبي في صدر الإسلام ، وأحد دهاة قريش في الجاهلية قال صاحب عيون الأخبار : سودت قريش أبا جهل ولم يطر شاربه فادخلته دار الندوة مع الكهول ، أدرك الإسلام وكان يقال له (أبو الحكم) فدعاه المسلمون (أبا جهل) قتل في معركة بدر عام ٢ ه.
راجع السيرة الحلبية ٢ : ٢٣ ودائرة المعارف الاسلامية ١ : ٣٢٢ وإمتاع الإسماع ١ : ١٨
(٢) في (أ) بزيادة لفظ (هذا).
(٣) سبق التعريف بهذا الكتاب.
(٤) سبق التعريف بهذا الكتاب.