لا يقال : سلّمنا حصول العلم قبل مراجعة الأخبار ، ولكن يرتفع موضوعه بعد المراجعة ، وذلك لأنّ لهذا العلم قدرا متيقّنا وهو عدد مخصوص ، فإذا اطلعنا على هذا العدد من التكاليف في ضمن الأخبار ينحلّ علمنا الإجمالي إلى العلم التفصيلي بهذا القدر الذي اطلعنا عليه والشكّ البدوي في ما زاد عليه ، فالزائد يصير مجرى للبراءة.
لأنّا نقول : لا شكّ في أنّ الأدلّة الشرعيّة لا يفيد القطع بكون مواردها حكما واقعيّا ، بل هي مجرّد حجّة على مواردها ، ألا ترى أنّه لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين ثمّ قام البيّنة على نجاسة هذا المعيّن منهما فهذه البيّنة لا تفيد القطع بأنّ هذا نجس واقعي ، لاحتمال وجوده في الإناء الآخر ، بل هي تكون حجّة على نجاسة هذا الإناء.
نعم لو كان هنا أحد أمرين انحلّ العلم ، إمّا أن يكون العلم الإجمالي متعلّقا بنجاسة الواحد بشرط لا ، وإمّا أن يكون مفاد البيّنة نجاسة هذا المعيّن لا غير ، فإنّه على الأوّل يضمّ البيّنة إلى العلم ويصير المتحصّل بعد ذلك طهارة الإناء الآخر ، وفي الثاني يحكم بطهارة الآخر بدليل حجيّة البيّنة ، وأمّا لو لم يكن العلم متعلّقا بالواحد بشرط لا ، ولا كان الحصر مفادا للبيّنة فلا تنافي بين قيام هذه الحجّة مع وجود العلم الإجمالي ، غاية الأمر يكون العمل في مورد البيّنة واجبا على طبق حجّتين ، إحداهما البيّنة والاخرى العلم.
والحاصل أنّه فرق بين العلم الوجداني التفصيلي في أحد الأطراف وبين قيام الطريق الشرعي في أحدها ، سواء كان قبل العلم الإجمالي أم بعده ، فإنّ العلم الوجداني مناف في العلم الإجمالي ويوجب انهدام بنيانه ، فإنّ قوامه وهو الإجمال والترديد في المتعلّق يصير بعد العلم الوجداني زائلا ، فلا يكون في النفس ترديد وإجمال بعده ، بل ينقلب الإجمال إلى مفصّل ومشكوك ، وهذا بخلاف الطريق ، فإنّ العلم الإجمالي لا يحدث قدح في بيانه بقيام الطريق الشرعي أصلا ؛ لأنّ الترديد والإجمال واحتمال أنّ هذا نجس ، أو هذا مثلا ، موجود معه في