ثم ما ذكره من استقرار بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ والسهو لندرته ممنوع مطلقا حتى مع انفتاح باب العلم ومع عدم حصول الظن ، بل طريقتهم تحصيل العلم بما هو موافق لغرضهم أوّلا ، ومع عدم إمكانه أو تعسّره فالظنّ ، فعدم الاعتناء باحتمال الخطأ النادر في نفسه من جهة أنّه لا ينافي حصول الظنّ في مورد حصوله ، وإن لم يحصل لهم ظنّ ولو من جهة احتمال الخطأ فيتوقّفون في متابعة الخبر ، بل نقول لو صحّ بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ مطلقا صحّ أن يقال إنّ بناءهم على عدم الاعتناء باحتمال تعمّد الكذب أيضا في غير الكذوب خصوصا إذا كان المخبر عادلا ، فإنّ احتمال خطئه ليس بأبعد وأندر من احتمال تعمّد كذبه ، ولازمه حجية خبر العادل الواحد ببناء العقلاء من غير احتياجه إلى دليل آخر ، وهو كما ترى (١).
__________________
(١) أقول : والإنصاف أنّ بناء العقلاء على الاعتماد على الظنّ النوعي بعد إحراز عدم تعمّد الكذب مما لا ينكر ، ألا ترى أنّهم يعتمدون على قول واحد من أهل الخبرة في كل صنعة وفنّ من غير تزلزل وتشكيك بعد إحراز أنّه أستاذ الفنّ ، وإحراز خلوّه عن الأغراض النفسانية التي توجب تعمّد الكذب ، ولا يعبئون باحتمال خطئه نادرا ، ودعوى حصول القطع في جميع موارد الرجوع مجازفة ، كما أنّ دعوى كون هذه الموارد بأجمعها مما ينسد باب العلم فيها ولو بالرجوع إلى باقي أرباب الصناعة حتى يحصل العلم خلاف الواقع مما نجده ، وكذا دعوى كونهم معتمدين على الظن الفعلي في كلّ واقعة واقعة أيضا خلاف الإنصاف ، كيف وأنّهم لو سألوا عن وجه عملهم يعللونه بقول فلان وفلان من أهل الصنعة لا الظن الحاصل من ذلك القول ، ويشهد بذلك ما حكاه عن الكفار في الكتاب العزيز بقوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)[سورة الزخرف ٤٣ : ٢٣] مع أنّهم عقلاء ، وكذا في قوله : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا)[(سورة يونس ١٠ : ٣٦] وقوله : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)[سورة البقرة ٢ : ٧٨] إلى غير ذلك ، غاية الأمر ورود المنع عن العمل بالظن في الشرعيات من الأحكام الأصولية والفرعية ، فيقتصر على ما ثبت فيه المنع ويبقى الباقي تحت الأصل المذكور ، وعلى هذا أصالة حجية خبر العادل قريب جدا لو لم يمنعه الأدلة الدالة على حرمة العمل بالظنّ ، فليتأمّل.