يسقط بقيام البعض عن الباقين ؛ لأنه قال : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أمر بنفير
__________________
ـ [التوبة : ٣٦] وعلى الكفاية : بقوله ـ عزوجل. (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)[النساء : ٩٥] وبقوله تعالى (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة : ١٢٢] ، وأقل ما يفعل مرة في كل عام.
(قال ابن قدامة في تعليل ذلك : لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام وهي بدل القدرة ؛ فكذا مبدلها وهو الجهاد. فيجب في كل عام مرة إلا من عذر مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدة ، أو يكون ينتظر المدد يستعين به ، أو يكون الطريق إليهم فيها مانع أو ليس فيها علف أو ماء ، أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام ، فيطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال ؛ فيجوز تركه بهدنة ؛ فإن النبي صلىاللهعليهوسلم قد صالح قريشا عشر سنين ، وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده. وأخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة وإن دعت الحاجة إلى القتال في عام أكثر من مرة وجب ذلك ؛ لأنه فرض كفاية ؛ فوجب منه ما دعت الحاجة إليه ، وقد خالف في الفريضة ابن شبرمة والإمام الثوري وقالا : إن القتال غير واجب ولا يصح قتال الكفار حتى يبدءونا ؛ لقوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] وقوله جل شأنه : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] وهكذا روى عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وسئل عطاء ، وعمرو بن دينار : الغزو أواجب؟ قالا : ما علمناه واجبا.
وخالف في الكفاية ابن المسيب ، وقال : إنه فرض عين في الأحوال كلها ؛ لقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] ، وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) [البقرة : ٢١٦] ، وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «من مات ولم يغز ، ولم يحدّث نفسه بالغزو ـ مات على شعبة من النفاق».
ولكن النصوص الصريحة تبطل هذا القول. وعمل الرسول ـ عليهالسلام ـ «خصه ، فإنه لو كان فرض عين في الأحوال كلها لما وعد الله القاعدين بالحسنى في قوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [النساء : ٩٥] الآية ولما قعد عنه النبي صلىاللهعليهوسلم ، واكتفي ببعث السرايا ولا أذن لغيره بالتخلف ، ولأن فريضة القتال المقصود إعزاز الدين ، وقهر المشركين ؛ فإذا حصل هذا المقصود بالبعض سقط عن الباقين. ولأن في جعله فرض عين ـ حرجا عظيما ؛ حيث تتعطل أمور الناس من زراعة ، وتجارة إذا خرجوا جميعا للجهاد. والحرج منتف. (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨].
ويكون الجهاد فرض عين بلا خلاف بين الفقهاء ؛ إذا هجم العدو على بلد من بلاد المسلمين ؛ فيتعين على كل واحد من آحادهم ممن هو قادر عليه ؛ لأن الوجوب على الكل ثابت بالنصوص.
وسقوطه عن البعض بحصول المقصود بالبعض الآخر. فإذا لم يتحقق الدفع إلا بالكل ـ يبقى فرضا عينيا عليهم جميعا ؛ كالصلاة ، والصوم ...
إذا التقى الزحفان ، وتقابل الصفان ؛ فيحرم على من حضر الانصراف ، ويتعين عليه المقام ، إلا متحرفا لقتال ، أو متحيزا إلى فئة ، وما دام الكفار لم يزيدوا على ضعف عدد المسلمين ؛ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال : ٤٥] وقال جل شأنه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[الأنفال : ١٥ ـ ١٦].
وإذا استنفرهم الإمام ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ ـ