أن يكون لمن ذكر فضل على البشر ، وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر ، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني التي تدعوهم إلى ما فيه الخلاف لله والمعصية له ، وجعل لهم أعداء أمروا بالمجاهدة معهم ، من نحو : أنفسهم ، والشياطين الذين سلطوا عليهم ، ولا كذلك الملائكة ؛ فمن حفظ نفسه ، وصانها ، وأخلصها من بين الأعداء ، وقمع ما ركب فيهم من الشهوات ، والحاجات الداعية إلى الخلاف لله والمعصية له ـ كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك ، والله أعلم.
وما ذكر من اغترار آدم وحوّاء بقول إبليس : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) [الأعراف : ٢٠] لا يحتمل أن يكون آدم لما خلقه من جوهر البشر ، وأخبر أنه جعله خليفة في الأرض أنه يتناول ما نهي عنه ؛ ليصير من جوهر الملائكة ، ولكنه ـ والله أعلم ـ رأي أن الملائكة طبعوا على حب العبادة لله ، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات التي تشغل المرء عن العبادة لله والطاعة له ـ فأحب أن يطبع بطبعهم ؛ ليقوم بعبادة الله كما قاموا هم ، والله أعلم.
والتكلم في مثل هذا فضل ؛ ذلك إلى الله تعالى ، وإليه التخيّر والإفضال.
ثم تأويل قوله عزوجل ـ والله أعلم ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) : وذلك أنهم كانوا يعبدون الملائكة دون الله ، ويعبدون المسيح دونه ؛ فأخبر أن أولئك الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتى ؛ فكيف تستنكفون أنتم؟!
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً)
فهو ـ والله أعلم ـ على الإضمار ؛ كأنه قال : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، ومن لم يستنكف عن عبادته ولم يستكبر ؛ فسيحشرهم إليه جميعا.
ثم بين جزاء من لم يستنكف عن عبادته ومن لم يستكبر ، ومن استنكف واستكبر ، فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ...) الآية ، (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا ...) الآية ؛ وإلا لم يكن في الذين استنكفوا مؤمن ؛ بل كانوا كلهم كفارا ؛ بالاستنكاف والاستكبار عن عبادته.
والاستنكاف والاستكبار واحد في الحقيقة ، وقال الكسائي : وإنما جمع بينهما ؛ لاختلاف اللفظين ، وهذا من حسن كلام العرب : كقول العرب : كيف حالك؟ وبالك؟
والحال والبال واحد ، ومثله في القرآن والشعر كثير.
لكن الاستنكاف ـ والأنفة ـ لا يضاف إلى الله تعالى ، والاستكبار يضاف ، [فهما] من هذا المعنى مختلفان ، وأما في الحقيقة فهما واحد ، والله أعلم.