وقال آخرون بتفضيل البشر على الملائكة ، ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة ؛ لأنهم يعملون (١) بالفساد وبكل فسق ، إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف منهم بذلك ـ على الملائكة ؛ فذلك يحتمل أن يتكلم فيه.
ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة ـ إلى أنه : ليس في قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ـ [دلالة] على أن الملائكة كلهم أفضل منهم ؛ لأنه إنما ذكر (الْمُقَرَّبُونَ) ، لم يذكر الملائكة مطلقا ؛ فيجوز
__________________
ـ دخول الجنة الإيمان ، وسبب نيل الدرجات الأعمال الصالحة ، وقد وجد من الملائكة هذا السبب كما وجد من بني آدم ، بل أكمل ؛ فيكون لهم شركة معهم في الجنة :
فنقول : عندنا : دخول الجنة بفضل الله ـ تعالى ـ وعده بسبب الإيمان لا بطريق الاستحقاق ؛ فيدخل من وعد له الجنة بفضله ، والوعد في حق المؤمنين من بني آدم ـ يدل عليه قول الله ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) إلى قوله (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)[الرعد : ١٩ ، ٢١] وقال أيضا (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ...) إلى قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها)[الرعد : ٢٢ ـ ٢٣] ، وهذا كله من صفات بنى آدم. ثم قال : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ)[الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] ؛ فهذه الآية دلتنا أن الجنة لبني آدم والملائكة يدخلون عليهم زائرين ، أما الآى الأخر التي فيها وعد الجنة لمن آمن وعمل عملا صالحا ، مطلقا ـ فالمراد منها بنو آدم ؛ علمنا ذلك بهذه الآية ، ولأن هناك العمل الصالح مجمل ، وقد بين في هذه الآية العمل الصالح وهذا يتحقق من بني آدم لا من الملائكة.
وأما احتجاجهم بقول الله ـ تعالى ـ : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ)[الأعراف : ٢٠] ـ فنقول : قد قرئ : «ملكين» : بكسر اللام ، ولا حجة لهم في هذه القراءة. وأما القراءة الأخرى فلا حجة لهم أيضا ؛ فإن ظاهر الآية متروك العمل بالإجماع ؛ فإن الآدمى لا يصير ملكا حقيقة ؛ فدلنا أن مراد الله ـ تعالى ـ غير الحقيقة ، وهو غير معلوم ؛ فلا يصح التعلق به ، على أنه يحتمل أنه أراد به أن تكونا في العلو كالملائكة ؛ فهذا هو الظاهر. وأما قوله ـ تعالى ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)[النساء : ١٧٢] ـ : ليس فيه أن الملك أفضل من الآدمى ، لكن فيه بيان أن عيسى ـ عليهالسلام ـ مع جلال قدره ، والملائكة المقربون مع جلال قدرهم ـ لا يستنكفون عن عبادة الله ـ تعالى ـ فكيف تستنكفون يا أهل مكة ، مع خسة حالكم عن عبادة الله؟! وليس في تفضيل الملائكة على بني آدم.
وقولهم : إن الملائكة أعبد لله ـ تعالى ـ وأطوع له من بنى آدم.
فنقول : عندنا الفضل ليس بالطاعة والتقوى لا غير ؛ بل يكون بهما ، وقد يكون بالوضع من الله ـ تعالى ـ : كفضيلة الأزمنة والأمكنة ؛ فإنها بالوضع من الله ـ تعالى ـ وعندهم ليس بالوضع ، وهذه المسألة تبنى على مسألة الأصلح ؛ فإنه لا يجب للعبد على الله ـ تعالى ـ شيء عندنا.
وعند «القدرية» و «المعتزلة» : يجب ، وقد ذكرنا هذا ؛ ولهذا نقول : إن فضل شهر رمضان على سائر الشهور بوضع الله ـ تعالى ـ لا بشرع صوم رمضان فيه ، وكذلك فضل الكعبة بوضع الله ـ تعالى ـ فيها ، لا بعبادة الناس فيها ؛ فإن الله ـ تعالى ـ شرف الأمكنة والأزمنة ، ثم أمر بالعبادة فيها. ينظر : أصول الدين للبزدوي (١٩٩ ـ ٢٠٢).
(١) في ب : يعلمون.