ودل قوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) على أن السارق في المصر ليلا أو نهارا لا يكون محاربا ، وإنما هو سارق تقطع يده دون رجله ؛ لأنه ذكر السعي في الأرض بالفساد ، والسارق في المصر لا يقال : سعى في الأرض ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٠١] لم يرد الضرب في المصر ، ولكن أراد الأسفار ؛ فعلى ذلك الأول.
وأما الكلام في القتل والصلب والقطع : فروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «إذا حارب وقتل وأخذ المال ـ قطعت يده ورجله من خلاف وصلب ، فإن قتل ولم يأخذ المال ـ قتل ، وإن أخذ المال ولم يقتل ـ قطعت يده ورجله من خلاف» (١).
وتأول الآية : (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية : على أن الواجب على المحارب من العقوبة له على قدر جنايته ، ويزاد في عقوبته بقدر زيادته في جرمه.
وتأول غيره الآية : على أنها نزلت في المحارب الذي يصيب المال والنفس ، وإذا أصاب الأمرين كان للإمام أن يقتله كيف شاء : إن شاء قتله بالسيف قتلا ، وإن شاء قطع يده ورجله ثم يتركه حتى يموت ، وإن شاء صلبه حيّا (٢) ، وإن أبطأ عليه الموت طعن بالرماح حتى يموت ؛ وإلى هذا كان يذهب أبو حنيفة ، رحمهالله.
وأما أبو يوسف ومحمد ـ رحمهماالله ـ قالا : إذا صلب لم تقطع يده ورجله ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع عليه الأمرين ، وإنما جعل الله له أحدهما بظاهر قوله : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) ، وجعلا عقوبته مختلفة على قدر جنايته ، إن قيل : فما معنى التخيير فيه؟ قيل : معناه ـ والله أعلم ـ أن يقتل بالسيف ، أو يقتل بالصلب ، أو يقتل بقطع اليد والرجل (٣).
وأصله : أن حرف التخيير إذا كان في متفق الأسباب يخرج مخرج التخيير ، من نحو : التخيير في كفارة اليمين (٤) ، وكفارة الظهار (٥) ، وكفارة المتأذي (٦) ؛ لأن سبب وجوبه
__________________
(١) أخرجه الشافعي في مسنده (٢ / ١٧٣) ، رقم (٢٨٢) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٨ / ٢٨٣) كتاب السرقة : باب قطاع الطريق ، والطبري (٤ / ٥٥٢) رقم (١١٨٣٣).
(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٩٣) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن عطاء ومجاهد ، وأخرجه بنحوه الطبري (٤ / ٥٥٤).
(٣) ذكره الرازي في تفسيره (١١ / ١٧٠) ، والقرطبي (٦ / ٩٩).
(٤) وذلك لقوله ـ تعالى ـ : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ...) [المائدة : ٨٩].
(٥) لقول الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ..... فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) [المجادلة : ٣ ، ٤].
(٦) وهي فدية حلق الرأس وشبهه ؛ لقول الله ـ تعالى ـ : (... فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ...) [البقرة : ١٩٦].