وبعد : فإن الله ـ تعالى ـ جعل الأطعمة والأشربة والفواكه للبشر في الوقت والحال التي تطيب أنفسهم بها وتلذ ؛ لأنه لم يحل لهم في أول خروجها من الأرض والنخيل ، إنما أحل لهم بعد نضجها وينعها واتخاذها خبزا ، وبلوغها في الطيب نهايته ، وجعل للبهائم ذلك في أول ما يخرج ، فإذا كان البشر خصوا بذلك لم يجب أن يحرم ذلك ، ويبطل ذلك التخصيص والتفضيل ، والله أعلم.
فإن قيل : إنما لم يتناول منها لما يعجز عن شكر الله ؛ لذلك يقتصر على ما يقيم الرمق (١) منه.
قيل له : فيجب ألا يتزوج من النساء إلا أدونهن جمالا وأكبرهن سنّا ؛ لأنها تصونه عن الفجور ، فإن لم يكن في تزويج (٢) العجائز والقبائح وترك الشبان الحسان زهادة ، فليس في أكل خبز الشعير وترك المحور (٣) والميدة (٤) زهادة ، ولكن لما خاف أن يدخله الرغبة في طيب الطعام في شبهة مكسبه ، فواجب عليه ألا يدخل في ذلك المكسب ، وينزه نفسه عنه ، ويقتصر على القوت الذي لا بد له منه.
وقيل : الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم منهم : عمر وعلي وابن مسعود وعثمان ابن مظعون (٥) والمقداد (٦) وسالم ، رضوان الله عليهم أجمعين. وهؤلاء حرموا على أنفسهم الطعام والنساء ، وهموا أن يقطعوا مذاكيرهم ، وأن يلبسوا المسوح ويدخلوا
__________________
(١) الرمق : بقية الروح. لسان العرب (رمق) ، المعجم الوسيط (١ / ٣٧٣).
(٢) في ب : تجويز.
(٣) المحور : الخشبة يبسط بها العجين. المعجم الوسيط (حور).
(٤) الميدة : لغة في المائدة ، وهي الخوان عليه الطعام والشراب ، ينظر : لسان العرب (ميد) ، والمعجم الوسيط (ميد).
(٥) عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة الجمحي ، أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا ، وهاجر إلى الحبشة ـ هو وابنه السائب ـ الهجرة الأولى في جماعة ، توفي بعد شهوده بدرا في السنة الثانية من الهجرة. ينظر : الإصابة رقم (٥٤٦٩) ، وأسد الغابة رقم (٣٥٩٥).
(٦) المقداد بن الأسود : هو أبو معبد ، وقيل : أبو الأسود ، المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة ابن ثمامة بن مطرود بن عمرو الكندي. وقيل : إنه قضاعي ، وقيل : هو حضرمي ؛ وذلك أن أباه حالف كندة ؛ فنسب إليها ، وحالف المقداد الأسود بن عبد يغوث الزهري ؛ فقيل له : زهري ، وإنما سمي ابن الأسود ؛ لأنه كان حليفه ، أو لأنه كان في حجره. كان قديم الإسلام ، شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها ، وعداده في أهل الحجاز ، وكان من الفضلاء النجباء الكبار الأخيار من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم. مات بالجرف ـ بضم الجيم ، وسكون الراء ، وبالفاء ـ : موضع على ثلاثة أميال من المدينة ، فحمل على رقاب الناس ، ودفن بالبقيع سنة ثلاث وثلاثين ، وهو ابن سبعين سنة.
ينظر : المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء (٢ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧) ، والاستيعاب (١٤٨٠) ، وتهذيب التهذيب (١٠ / ٢٥٤).