لِلنَّاسِ) ، أي : ثباتا للناس ودواما ؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعلها موضعا لإقامة العبادات ، من نحو : الحج ، والطواف ، والصلاة ، وإراقة الدماء ، والهدايا ، وغير ذلك من العبادات ، ثم إن تلك العبادات جعلها ثابتة دائمة لا تبدل ولا تنسخ أبدا ؛ فذلك معنى القيام للناس ، والله أعلم.
وقال بعضهم : قياما بمعنى : قواما ، أي : جعلها قواما لهم في معاشهم (١) ومعادهم ؛ لأنه جعلها مأمنا لهم وملجأ ؛ حتى أن من ارتكب كبيرة أو جرم جريمة [ثم لجأ إليه](٢) ، لم يتعرض له بشيء من ذلك ، ولا يتناول منه ، وكانوا إذا وجدوا هديا مقلدا لم يتعرضوا له وإن كانت حاجتهم إليه شديدة ، ونحو هذا كثير مما يطول ذكره.
وجعل فيها عبادات ومقصدا ما لم يجعل في غيرها من البقاع : من قضاء المناسك وغيرها ، وكذلك الشهر الحرام كان جعله مأمنا لهم إذا دخلوا فيه ، يأمنون من كل خوف كان بهم ، وجعل في الهدايا والقلائد منفعة لأهلها ؛ فكان في ذلك قواما لهم في معاشهم ومعادهم.
وعن سعيد بن جبير : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) : شدة لدينهم (٣).
وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا) ، أي : ذلك الأمن وما ذكرنا من جعل الكعبة قواما لهم في معاشهم ومعادهم ؛ (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، أي : على علم جعل هكذا قبل أن يكون أنه يكون.
وقال بعضهم : قوله : (ذلِكَ) ، أي : ما سبق ذكره من تحريف الكتب وتغييرها وتبديل نعته صلىاللهعليهوسلم وصفته ، أي : على علم منه بالتحريف والتبديل خلقكم ، لا عن جهل ؛ ليمتحنكم ؛ لما لا يضره كفر كافر ، ولا ينفعه إيمان مؤمن ، بل حاصل ضرر الكفر يرجع إلى الكافر ، وحاصل نفع الإيمان يرجع إلى المؤمن.
وقوله ـ عزوجل ـ : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، أي : اعلموا أنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره ، على ما علمتم أنه عن علم منه كان جميع ما كان.
(وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واعلموا ـ أيضا ـ أن الله غفور رحيم لمن تاب وأناب إليه ، وشديد العقاب ؛ لأن من العقوبات ما ليس بشديد ، وخاصة عقوبة الآخرة أنه يعاقب
__________________
(١) أخرجه بنحوه ابن جرير (٥ / ٧٨) (١٢٧٨٦) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٩).
(٢) سقط من ب.
(٣) أخرجه ابن جرير (٥ / ٧٨) (١٢٧٨٩ ـ ١٢٧٩٠) عن سعيد بن جبير ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٥٨٩) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.