والثاني : (لا تَخَفْ) من غيري ؛ (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) من غيري ؛ فكأنه قال ـ والله أعلم ـ على هذا التأويل : إنما نهاه عن الخوف من غيره ، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون.
والثالث : أخبر أنه أمنه من خوف الآخرة وأهوالها ؛ كأنه قال : لا تخف فإني سأؤمن المرسلين من خوف يومئذ.
ثم استثنى فقال : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) : هذا ـ أيضا ـ يخرج على وجوه :
أحدها : لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم إذا بدل حسنا بعده سوء.
والثاني : لا يخاف لدي المرسلون ، ولكن من ظلم ممن سواهم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ، رجاء المغفرة وطمع العفو عما كان منه.
والثالث : لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم منهم ؛ نحو : موسى بقتله النفس ، وإخوة يوسف ، ثم بدل حسنا وتاب عن ذلك ـ فإنه يخاف أيضا ، والله أعلم.
وقوله : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : فالله تعالى قادر أن يجعل يده بيضاء من غير إدخاله إياها في جيبه ، لكنه امتحن موسى بالأمر بإدخالها في جيبه ؛ وكذلك قادر أن يصير عصاه في يده حية ، لكنه امتحن بالأمر بإلقائها ، ولله أن يمتحن عباده بكل أنواع المحن.
وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : قيل (١) : من غير آفة من برص أو غيره ، وقد ذكرنا معناه فيما تقدم.
وقوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) : قال بعضهم : موسى من تسع آيات ، وقد يجوز استعمال حرف في مكان من كما يقال : لفلان كذا كذا نوقا فيها فحلان ، أي : منها فحلان.
وقال بعضهم : (فِي تِسْعِ آياتٍ) : قال أبو معاذ : قد يكون معنى (في) و (مع) واحدا فيما لا يحصى عدده ، تقول : (خرجت في أهل مرو إلى مكة) ، و (مع أهل مرو إلى مكة) ، فإذا قلت : (خرجت في تسعة) اختلفا ؛ لأنك أحصيت العد في تسعة أنت تاسعهم ، و (مع تسعة) أنت عاشرهم.
وقال بعضهم : هو على الانقطاع من الأول ؛ كأنه قال لرسوله محمد : ولقد بعثنا موسى في
__________________
(١) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩٢).