وقوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) : قال بعضهم (١) : قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يحبس أولهم على آخرهم ؛ كأنه لا يدعهم أن ينتشروا ويتفرقوا ، ولكن يسيرهم مجموعين على كل صنف منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم ، وذلك من سيرة الملوك وأمراء العساكر أن يسيروا جنودهم مجموعة غير منتشرة ولا متفرقة.
وقال أبو عوسجة : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يساقون ، ويقال : أوزعني ، أي : ألهمني ، والوزع : من الكف والسوق ، تقول : وزع ، أي : كف ، ووزع ، أي : ساق.
وقال مرة : (يُوزَعُونَ) : يجتمعون ، يقال : وزعت الإبل ـ أي : جمعتها ـ أزع وزعا.
وقال القتبي (٢) : (يُوزَعُونَ) ، أي : يدفعون ، وأصل الوزع : الكف والمنع ، يقال : وزعت الرجل إذا كففته ، ووازع الجيش : هو الذي يكفهم عن التفرق والانتشار ، وهو على ما ذكر.
وقوله : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) : هذا يدل أن النمل وقتئذ لا تخالط الناس ؛ حيث أضاف الوادي إليها بقوله : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) ، ولو كانت تخالط الناس كهي الآن لقال : حتى إذا أتوا على الوادي الذي فيه النمل ؛ دل أنها كانت لا تخالط الناس ، وكان لها مكان على حدة ، والله أعلم.
وقوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : يخرج قوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ) على وجهين : على حقيقة القول من النملة كما يكون من البشر ، أطلع الله سليمان على ذلك ، وألقاه على مسامعه ؛ لطفا منه وفضلا من بين سائر الخلائق على ما ذكرنا في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ...) الآية [الإسراء : ٤٤].
والثاني : أن يجعل الله في سرية النمل معنى يفهم بعضها من بعض لما يريدون فيما بينهم من أنواع الحوائج على غير حقيقة القول ، أطلع الله سليمان على ذلك ؛ حتى فهم منها ما كانت تفهم بعضها من بعض لطفا منه وفضلا ؛ وهو كقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩] ، ليس أحد يقول لآخر إذا تصدق عليه ذلك ، لكن الله أخبر عما علم من ضميرهم ومرادهم من التصدق على غير حقيقة القول منهم ؛ فعلى ذلك قول النملة ، أخبر سليمان عما كان في سريتها فيما بينهم من غير أن كان منها نطق أو كلام يفهم منه الخلق ، والله أعلم.
وقالت الباطنية : ليس المراد من ذكر النمل : النملة المعروفة وقولها ؛ وكذلك قالوا في
__________________
(١) قاله ابن عباس وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٨٩٦) و (٢٦٨٩٧).
(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٣).