الشياطين والجن مسخرين له مذللين حتى قال واحد منهم : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) يعني : عرش بلقيس (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) ، وقال الآخر : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ، فمن له سلطان وقوة على القدر الذي ذكر لا يحتمل أن يقع له الحاجة إلى الماء ، وإذا وقعت لا يحتاج إلى أن يتكلف وصوله إليه بالهدهد مع تكلف الحفر في الأرض ، هذا يبعد بمرة ـ والله أعلم ـ إلا أن يخرج على الامتحان ، ويكون تفقده الطير لما كان عليه حفظهم جميعا ، ومنعه إياهم عن الانتشار في الأرض والتفرق ، لا لما ذكروا هم ـ والله أعلم ـ لما على كل ملك وأمير حفظ رعيته وحاشيته ، والتفقد عن أحوالهم وأسبابهم ؛ فعلى ذلك هذا.
ثم يحتمل أن يكون من كل صنف من الطير واحد لا عدد حتى قال : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) ؛ إذ لو كان عددا من الهداهد لقال : ما لي لا أرى هدهدا من الهداهد ، إلا أن يكون الذي فقده كان رئيسا لغيره من الهداهد وسيدهم ؛ فجائز أن يقال ذلك : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) من بين غيرهم يغيب عن بصري ولا أدركه (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) عنهم ؛ فكأنه سأل واحدا منهم عن ذلك ، فأخبر أنه من الغائبين ، فعند ذلك قال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ...) الآية ، فقالت الباطنية في ذلك : إن سليمان لا يحتمل أن يعذب من ليس بمخاطب في شيء ، ولا يجري عليه القلم ؛ فدل وعيده إياه من التعذيب والذبح أنه لم يكن هدهدا معروفا ، ولكن كان رجلا ممن يخاطب ويجري عليه القلم ؛ وكذلك قالوا في النملة : إنه كان رجلا ممن يكون منه الكلام والفهم ، وأما النملة المعروفة فلا يحتمل.
لكن الجواب لهم في ذلك : أن الله خلق هذه الدواب والطير وغيرها من الأشياء لمنافع البشر ولحاجاتهم ، فجائز تعذيبها وذبحها للرد إلى منافعهم إذا امتنعت عن الانتفاع بها ، على ما تؤدب الدواب وتعذب للرياضة والتعليم ؛ لردها إلى الانتفاع بها.
أو يعذبه لما يشغله عن ذكر الله والقيام ببعض أموره ، على ما ذكر في آية أخرى حيث قال : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ...) الآية [ص : ٣٢] لما شغله عن ذكر ربه ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تعذيب الهدهد على الوجوه التي ذكرنا.
ومن الناس من استدل بهذا على مخاطبة الطيور والدواب وغيرها ، وتكليفها بأمور كما يكلف غيرها من الخلائق ، واحتج على هذا بقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] ، أخبر أن الطير وغيره أمم أمثالنا ، وقد أخبر في آية أخرى أنه لم تخل أمة عن أن يكون فيها نذير بقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] ، الأمة التي هي أمثالنا من الإنس والجن ، دليله قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِ