والهلاك ؛ ألا ترى أنهم قالوا على أثر ذلك : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، قالوا ذلك له استهزاء بما يوعدهم ؛ فكأنه قال لرسوله : لا تكن في ضيق مما يستهزءون بما توعدهم ؛ فإن الله يجزيهم جزاء استهزائهم بك.
والثاني : (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي : مما يريدون ويهمون قتلك ؛ فإن الله يحفظك ويحوطك ؛ فلا يصلون إليك بما يريدون من قتلك وإهلاكك ، وهو ما قال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [الأعراف : ٧٠].
وفيه دلالة إثبات رسالته ؛ حيث أمنه وأخبره أنه يحفظه ويعصمه من جميع الأعداء وهو بين أظهرهم ، فذلك آية من آيات النبوة والرسالة ، والله أعلم.
وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : قد ذكرنا أنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وتكذيبا بما كان يوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه ، ثم كان يوعدهم مرة بعذاب ينزل بهم في الدنيا كما نزل بأوائلهم بتكذيبهم الرسل ، ومرة يوعدهم بعذاب ينزل بهم في الآخرة ، فيكذبونه في ذلك كله ويستهزءون به ويقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ؛ وكذلك قال أوائلهم لرسلهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف : ٧٠].
ثم قال : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) : هذا يحتمل وجهين : أحدهما : قوله : (رَدِفَ لَكُمْ) بعد هذه الحال ، وبعد هذا القول الذي قالوا : (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) ، أي : ينزل بكم بعد هذه الحال بعض الذي تستعجلون وهو العذاب ، وقوله : (رَدِفَ لَكُمْ) أي : يدنو منكم ويقرب.
والثاني : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) بعد الحزن والمكروه الذي يحل بكم بالموت (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) وهو عذاب القبر ؛ لأنهم وقت الموت يحزنون ويكرهون لما شاهدوا وعاينوا من حالهم ؛ ولذلك يسألون ربهم الرجوع والردّ إلى المحنة ثانيا ؛ نحو قولهم : (رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩] ، وقولهم : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) [الأعراف : ٥٣] ونحوه.
وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) : يحتمل قوله : (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) وجوها :
أحدها : ذو فضل في تأخير العذاب عنهم ، ولكن أكثرهم لا يشكرون ذلك الفضل ولكن يستعجلون.
والثاني : ذو فضل على الناس في دينهم في بعثه وإرساله إليهم من يزجرهم ويصرفهم عما يستوجبون من عذاب الله ومقته وهو الرسول ، لكنهم لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه ، بل يعاندونه ويكابرونه.