كان عالما لما كان منهم ، لكن السؤال إياهم ـ والله أعلم ـ يخرج مخرج توبيخ أولئك الكفرة وتعييرهم ؛ لأنهم يعبدون من ذكر من دون الله ، ويقولون : هم أمروهم بذلك ، وكانوا مقبولي القول عندهم صادقين فيما يخبرون ويقولون ، فأراد أن يظهر كذبهم عند الخلائق ؛ لذلك سألهم ، والله أعلم بالكائن منهم من أنفسهم ، لكنه يخرج على ما ذكرنا.
ثم نزهوه عن جميع ما لا يليق به ، وبرءوا أنفسهم عن أن يكون منهم أمر أو شيء مما نسبه أولئك إليهم ، وهو أعلم بهم فقالوا : (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) قال أهل التأويل : (أَوْلِياءَ) أي : أربابا ، وهم لم يتخذوا أربابا من دونه ، لكنه عندنا يخرج على وجهين :
أحدهما : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونه أولياء هم المؤمنون.
الثاني : أو أن يكون : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دون ولايتك ولاية سواك (١).
وفي بعض القراءات : أن نتخذ من دونك أولياء برفع النون ، لكن أهل الأدب يقولون : هو خطأ.
وقوله : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) : هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن آباءهم قد أمهلوا ومتعوا في هذه الدنيا ، حتى ماتوا على ذلك من غير أن أصابهم شيء مما أوعدوا في كتابهم ، ومما أوعدهم الرسل من العذاب والهلاك على ما اختاروا من الدين وصنيعهم ، فظنوا أنهم على حق من ذلك ؛ حيث لم يصبهم من المواعيد المذكورة في كتابهم ، أو ما أوعدهم رسلهم بشيء ؛ فعلى هذا التأويل الذكر : الذي نسوه هو كتابهم ، أو ما أوعدهم رسلهم ، والله أعلم.
فإن كان على هذا فالآية في أهل الكتاب منهم.
ويحتمل أن تكون الآية في الفراعنة ، والقادة من هؤلاء الكفرة متعوا في هذه الدنيا بأحوال ورئاسة ، ووسع عليهم المعيشة ، حتى دعوا الناس وأتباعهم إلى ما هم عليه من التكذيب برسوله وما أنزل عليه ، فأجيبوا بالأموال عندهم ، فنسوا ما في القرآن من الوعيد.
(وَكانُوا قَوْماً بُوراً) والبور : قال بعضهم : الهلاك.
وقال بعضهم (٢) : البور : الفساد.
وقوله : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) : أي : فقد كذبكم أولئك ، (بِما تَقُولُونَ) : أنهم أمرونا بذلك ، وكانوا عندهم صدقة.
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٩٨ ، ٤٩٩).
(٢) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٩).