يحسب الناظر إليه كأنه ساكن جامد ؛ لكثرتهم وازدحامهم ؛ فعلى ذلك الجبال (١).
وقال بعضهم : لا ، ولكن لشدة ذلك اليوم وهوله وفزعه على الناس يحسبون كأنها جامدة ، (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) وهو ما ذكر : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ...) الآية [الحج : ٢] ؛ لشدة ذلك اليوم وفزعه. وقال بعضهم : لا ، ولكن الجبال لهول ذلك اليوم وفزعه تمرّ مر السحاب وسيره ؛ كقوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] ، وأصله : إنما يذكر هذا وما تقدم من هول ذلك اليوم وشدته على الخلق ؛ ليتعظوا وينزجروا.
وقوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) : قال بعضهم (٢) : (أَتْقَنَ) : أحكم وأبرم.
وقال بعضهم (٣) : (أَتْقَنَ) : أي : أحسن كل شيء.
قال بعض المعتزلة : كيف يكون الكفر حسنا وهو قبيح ؛ لأنه شتم رب العالمين ، ولا يجوز أن يقال : الله خلق شتم نفسه وأحسن شتم نفسه ، أو أحسن كفر الكافر وغير ذلك من الخرافات؟!
فيقال لهم : لا يقول أحد : إنه خلق الكفر وأحسنه أو أحسن شتم نفسه على هذا الإطلاق ، من قال ذلك فهو كافر ، ولكن يقول : فعل الكفر من الكافر قبيحا ، وخلق فعل المعصية من العاصي قبيحا ، لكنه من حيث خلقه ذلك وجعله حجة عليه حسنا متقنا محكما ، وإن كان ذلك الفعل منه قبيحا باطلا سفها جورا ـ أعني : من الكافر ـ ألا ترى أن من تكلف أن يعرف فعل الكفر منه سفها وجورا كان غير مذموم ؛ لأنه يتكلف أن يعرف ما هو سفه في الحقيقة سفها ، ويعرف ما هو حق حقا فهو من هذا الوجه عارف بحق وحكمة ؛ لأن الحكمة توجب أن يعرف كل شيء على ما هو في نفسه حقيقة ؛ فعلى ذلك خلق فعل الكفر من الكافر على الوجه الذي ذكرنا هو حسن متقن محكم ، وإن كان من حيث فعل الكافر قبيحا سفها باطلا ، وهذا كما نصفه على الإطلاق : أنه رب كل شيء وخالق كل شيء ، ولا نقول : يا خالق الأنجاس ويا رب الأقذار ونحوه ، وإن كان هذا داخلا في الجملة أنه خالقها وربها ؛ لأنه على الإطلاق يخرج مخرج المدح له والثناء وعلى التخصيص مخرج الذم له ؛ فعلى ذلك الأول.
وقوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) : على أثر وصف الجبال بما وصف من انتقاضها
__________________
(١) ثبت في حاشية أ : بمنزلة السحاب الذي استوعب السماء ، وهو يمر ، ولا يحس مروره ؛ لازدحامه واشتمال السماء له ، فهذا كذلك ، وكذلك العسكر. شرح.
(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٧١٢٥) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢١).
(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٧١٢٦) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢٢).