على إثره جوابا له ، إلا أن يقال : إن قوله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي : لم تصبهم مصيبة ، وذلك جائز في اللغة ؛ كقوله : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) [النور : ١٦] أي : لم تقولوا : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ، وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ) [النور : ١٤] أي : لم يمسّهم ، وجميع ما ذكر في هذه السورة من (وَلَوْ لا) كله أنه لم يكن ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تأويل قوله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي : لم تصبهم مصيبة ، ولو أصابتهم مصيبة ، وهو العذاب (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) وهو كقوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤] على هذا يخرج تأويل هذا.
ثم في هذه الآية في قوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) وجهان :
أحدهما : على من يقول بأن ليس لله أن يعذبهم بما كان منهم قبل بعث الرسل إليهم لقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، وفي الآية بيان أن له أن يعذبهم وإن لم يبعث الرسل ؛ لأنه أوعدهم الهلاك ، فلو لم يكن له التعذيب والإهلاك لم يكن للإيعاد فائدة ؛ فدل أن له الإهلاك في الدنيا والاستئصال ، لكنه أخره عنهم ؛ فضلا منه ورحمة.
والثاني : على المعتزلة في قولهم الأصلح ؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أوعدهم أصلح لهم من الترك أو الترك لهم أصلح : فإن كان ما أوعد لهم أصلح فقد تركهم ؛ فيكون في تركهم إياهم جائرا على قولهم ؛ لأنه لم يفعل ما هو أصلح لهم في الدين.
أو أن يكون الترك لهم أصلح ؛ فيكون بما أوعدهم جائرا ؛ إذ أوعد بما كان غيره أصلح لهم مما أوعد ؛ فدل ما ذكرنا على أن ليس على الله حفظ الأصلح لهم في الدين.
ثم قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ليس الكفر نفسه ، ولكن العناد والمكابرة مع الكفر ؛ لأن عذاب الكفر في الآخرة ليس في الدنيا ؛ لأن الله تعالى قد أبقى كثيرا من الكفرة لم يهلكهم ولم يعذبهم في الدنيا ، ولكن إنما أهلك واستأصل في الدنيا من عاند وكابر الرسل في الآيات والحجج التي أتوهم بها وأقاموها عليهم على أثر سؤال كان منهم ، فعند ذلك أهلكهم واستأصلهم لا بنفس الكفر ، ثم مع ما كان له التعذيب قبل بعث الرسل لم يعذبهم ، ولكن أخر عنهم إلى أن يبعث الرسل إليهم بالآيات والحجج ؛ ليقطع به لجاجهم ومنازعتهم فضلا منه ، وإن لم يكن لهم الاحتجاج عليه بقولهم : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
يحتمل قوله : (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) الآيات التي تبعث مع الرسل لا يبعث الرسل بالآيات.