وخطبته يومئذ حيث قال : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ...) الآية [إبراهيم : ٢٢] ؛ فعلى ذلك هؤلاء يقولون : لم يكن منا إليهم سوى الدعاء بلا برهان ولا حجة فاتبعونا ؛ فلا تلومونا ولوموا أنفسكم ؛ حيث تركتم إجابة الرسل ومعهم براهين وحجج ، وأجبتمونا بلا حجة ولا برهان ، فأغويناكم كما غوينا ، ولو كنا على الهدى لهديناكم ، كقولهم : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) [إبراهيم : ٢١].
وقوله : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) : إنما يتبرءون أنا لم نأمرهم بالعبادة لنا ، وإلا كانوا عبدوهم.
ثم إن للمعتزلة أدنى تعلق بهذه الآية ؛ لأنهم يقولون : إنما أضافوا الغواية إلى أنفسهم حيث قالوا : (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) ؛ دل أن الله لا يغوي أحدا.
فيقال لهم : إنا لا نضيف ولا نجيز إضافة الغواية إلى الله فيما يخرج مخرج الذم له ، وإنما نضيف فيما يخرج مخرج المدح له والثناء عليه ، ثم قد أضاف إبليس الغواية إليه ، ولم ينكر عليه حيث قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩] في غير موضع وقال : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [الرعد : ٢٧] ، ونحوه كثير في القرآن ، فما خرج مخرج المدح له والثناء عليه يضاف إليه ، وما خرج مخرج الذم له فلا ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع ، والله أعلم.
وقوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يوم قال لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ، ثم قالت الشياطين في الآخرة : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) يعنون : كفار بني آدم ، هؤلاء الذين أضللناهم عن الهدى كما ضللنا تبرأنا إليك منهم يا رب (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) ، فتبرأت الشياطين ممن كان يعبدها ، فقالوا : لم نأمرهم بعبادتنا ، وقيل لكفار بني آدم : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) يقول : سلوا الآلهة التي سميتموها : آلهة أهم آلهة؟ (فَدَعَوْهُمْ) أي : سألوهم ، فلم تجبهم الآلهة بأنها آلهة.
وقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا ، أي : معي شركاء على ما ذكرنا من قبل ، والله أعلم.
وقوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) يحتمل شركاءكم في الخلقة ، أو شركاءكم في العبادة ادعوهم ؛ ليشفعوا لكم ويقربوكم إلى الله على ما زعمتم في الدنيا ، (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ، أي : لم يشفعوا لهم ولم يستجيبوا لهم ؛ لما لم يجعل في وسعهم الإجابة لهم واجبا كائنا في الآخرة.
وقوله : (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) : تأويله ، أي : لو رأوا العذاب في الدنيا لكانوا يهتدون ، ولكن لم يروه ؛ هذا وجه.