ووجه آخر : أنهم لم يصدقوا بالعذاب في الدنيا ، ولو صدقوه لاهتدوا مخافة نزول العذاب بهم.
والثالث : لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة ، والله أعلم.
وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) اختلف فيه : قال قائلون : إنما يسألون عن إجابتهم الرسل ما ذا أجبتموهم؟ على علم منه أنهم ما ذا أجابوا هم ، (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) أي : الإجابة ، فلا يتهيأ لهم الإجابة لهول ذلك وفزعهم.
وقال بعضهم : إنما يسألون عن الحجة والعذر الذي به كانوا تركوا إجابة الرسل ، فيقول لهم : لأي حجة وعذر تركتم إجابتهم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) ، أي : الحجج والعذر ، لما لم يكن لهم الحجة والعذر في تركهم إجابتهم.
(فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) : قال بعضهم (١) : لا يسأل بعضهم بعضا ، بل يتبرأ بعضهم من بعض ، ويكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا على ما ذكر في الكتاب.
وقال بعضهم : (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) بالحجة والبرهان ؛ لما لا حجة لهم ولا برهان ، أي : لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج ؛ لأن الله أدحض حججهم وكلل ألسنتهم.
وقال بعضهم (٢) : لا يتساءلون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتساءلون في الدنيا ؛ كقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، والله أعلم بذلك.
ثم إن بعض المعتزلة تكلموا فيه وقالوا : لو كان الأمر على ما قاله القدريون والجبريون في المشيئة والإرادة ، لكان يسهل لهم الاحتجاج ، ويهون لهم العذر ، فيقولون : يا ربنا أجبنا ما نفذ من مشيئتك وإرادتك ، وما مضى من قضائك وكتابتك علينا ؛ إذ كنت أنت قضيت وكتبت علينا وشئت وأردت ما كان منا من التكذيب لهم وترك الإجابة ، فلم يكن لنا تخلص مما شئت أنت وقضيت علينا.
إلى هذا الخيال يذهب جعفر بن حرب ، وهذا تعليم لأولئك الكفرة الحجاج بالباطل والكذب بين يدي رب العالمين للتكذيب الذي كان منهم.
ثم يقال : لو كان لهم ذلك الحجاج على زعمكم ، فلا يكون ذلك لهم بقولنا ، ولكن إنما يكون بكتاب الله وسنة رسوله وقول المسلمين أجمع حيث قالوا : (ما شاء الله كان
__________________
(١) قاله البغوي في تفسيره (٣ / ٤٥٢).
(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٥٥٣) ، (٢٧٥٥٤) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥٧).