والثاني : ينقض على المتقشفة مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إن الموعظة إنما لا تنجع في الموعوظين لتفريط الواعظ وترك استعمال نفسه ذلك ، فيقال : إن نوحا قد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يجبه إلا نفر ؛ فلا يحتمل أن يكون منه تقصير أو تفريط ؛ فدل أنها لا تنجع ربما لشقاوة الموعوظ.
وقوله : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) : قال بعضهم (١) : هو المطر الشديد.
وجائز أن يكون الطوفان كل بلاء فيه الهلاك.
والطوفان هو ما أرسل عليهم من الماء فأغرقهم ، والله أعلم.
وقوله : (فَأَنْجَيْناهُ) أي : نوحا ، (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي : من دخل السفينة ، (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) قال بعضهم : جعلها آية : هو أن هلكت كل سفينة كانت ، وهي باقية اليوم على ما هي عليه.
وقال بعضهم : (وَجَعَلْناها آيَةً) لمن بعدهم ، فتمنعهم عن تكذيب الرسل والعناد معهم.
قال الزجاج : الاستثناء يخرج على تأكيد ما تقدم من الكلام ؛ كذكر الكل على أثر ما تقدم من الكلام ، أو كلام نحوه.
وقلنا نحن : إن كان ما تقدم من الذكر كافيا تامّا ، فيخرج الثنيا على أثره مخرج التأكيد لما تقدم ؛ نحو قوله : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ) [الحجر : ٥٨ ، ٥٩] ، قوله : (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) كاف تام مفهوم ألّا يدخل فيه آل لوط حيث ذكر المجرم ؛ إذ آله غير مجرمين ، فهو كاف مفهوم لا يحتاج إلى ذكر آل لوط ، لكنه ذكر على التأكيد له.
وكذلك قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) و (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) [النساء : ٢٤ ، ٢٥] ؛ إذا قال : محصنين : يفهم أنهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان ، لكنه ذكر على التأكيد.
وإذا كان ما تقدم من الكلام محتملا مرسلا ، فيخرج ذكر الثنيا مخرج تحصيل المراد منه على إضمار حرف «من» فيه ؛ كقوله : (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كأنه قال : فلبث فيهم من ألف سنة تسعمائة وخمسين ؛ وكذلك قول الناس لفلان : عليّ عشرة دراهم إلا كذا ، كأنه قال : لفلان علي من عشرة دراهم كذا ، فهو على التحصيل يخرج ذكره.
وقال بعضهم : الطوفان كل ماء طاف فاش من سبيل أو غيره ؛ وكذلك الموت الجارف يسمى الطوفان وماء الطوفان ، وهو ما ذكر في سورة الأعراف.
__________________
(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٧١٣) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٢٧٣).