تجادلوهم ؛ فإنكم وإن جادلتم إياهم فلا يؤمنون ، وهو كقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة : ١٥٠] قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ) ليس على الثنيا من الأول ، ولكن ابتداء نهي ؛ أي : لا تخشوهم واخشوني ، فعلى ذلك يحتمل الأول مثله.
والثالث : جائز أن يكون قوله : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ...) إلى آخر ما ذكر : هي المجادلة الحسنة التي أمروا بها ؛ لأن تلك مما يقبلها العقل والطبع ، وبها جاءت الكتب والرسل ؛ فلا سبيل إلى ردّ ذلك.
وقال بعضهم : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : جادلوا الذين يصدّقون منهم ولا يكتمون نعت محمد وما في كتبهم من الحق ، فأمّا الذين تعلمون أنهم يكتمون ولا يصدّقون فلا تجادلوهم ، وهو كقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣] والأوّل كقوله : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...) الآية [آل عمران : ٦٤] ، والمجادلة الحسنة هي التي جاء بها الكتاب ويوجبها العقل.
ثم فيه دلالة جواز المناظرة والمجادلة مع الكفرة في الدين ، وكذلك ـ قوله تعالى ـ : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ليس كما يقول بعض الناس : إنه لا يجوز معهم المناظرة ، وذلك لجهلهم بحجج الإسلام وبراهينه ؛ [على] ما ينهون عن المجادلة والمناظرة معهم.
وقال بعضهم (١) : من لا عهد معهم فجادلهم بالسيوف ، ومن كان معه عهد وكتاب فجادلهم بالحجج.
وقال بعضهم (٢) : هو منسوخ بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) الآية [التوبة : ٢٩].
ومنهم من يقول : من أدّى إليكم الجزية فلا تغلظوا له القول وقولا لهم قولا حسنا ، ومن لم يؤدّ فاغلظوا لهم وجادلوهم بالسيوف ، والله أعلم.
وقوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي : كما أخبرناك في الكتاب ، فقل لهم ، أو جادلهم.
وقوله : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يخرج على وجهين :
أحدهما : الذين آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته ، فهم يؤمنون به ؛ على ما ذكرنا في آية أخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١] فتكون
__________________
(١) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٨٢٠).
(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٨٢٢).