ثم الأمر بالخروج والهجرة عن أرضهم إلى أخرى يخرج على وجهين :
أحدهما : لما لا يقدرون على إظهار دين الله ؛ خوفا على أنفسهم من أولئك الكفرة ، فأمروا بالخروج والهجرة عنها إلى أرض يقدرون على إظهاره والقيام به.
والثاني : أن كانوا يقدرون على إظهار دينهم ، لكنهم لا يقدرون القيام على تغيير المناكير عليهم والأمر بالمعروف ، فأمروا بالخروج منها إلى أرض ليس بها مناكير ، أو إن كانت بها فيقدرون على تغييرها والأمر بالمعروف فيها ، فبمثل هذا جائز أن يؤمر الناس بالتحول من أرض إلى أخرى إذا لم يقدروا على تغيير المنكر ودفعه وليس كالرسل ؛ لأن سائر الناس إذا كثر سماعهم المنكر يخفّ ذلك على قلوبهم وتميل إليه القلوب وتسكن وتطمئن ، فيؤمرون بالخروج عنها والتحول إلى أخرى ؛ لئلا تميل ولا تسكن إليه قلوبهم.
وأما الرسل وإن كثر سماعهم المنكر فإن قلوبهم لا تميل ولا تلين ولا تسكن إليه أبدا ؛ بل يزداد لهم شدة وصلابة في ذلك وبعدا عن قلوبهم ؛ لذلك اختلف أمر الرسل وغيرهم.
أو أن يكون لا يؤمرون بالخروج ولا يؤذن لهم ؛ لما هم إنما بعثوا إلى أهل الكفر والمنكر ليدعوهم إلى دين الله ؛ فلا يحتمل أن يؤذن لهم بالخروج والهجرة إلى أخرى وهم إليهم بعثوا ؛ ليدعوهم إلى دين الله ، فقوله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) هو ما ذكرنا : أمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم ، ولا يمنعهم عن ذلك خوف ضيق العيش في غيره ؛ لما يعتزلون عن أموالهم ، وحرفهم ، وأهل قرابتهم ومعونتهم ؛ لما وعد ـ عزوجل ـ التوسيع عليهم لو خرجوا وهربوا ؛ إشفاقا على دينهم ، وكذلك روي عن الحسن عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من فر بدينه من أرض إلى أرض أخرى وإن كانت شبرا ، وجبت له الجنة ، ويبعث مع أبيه إبراهيم ونبيه محمد» (١) أو نحوه من الكلام.
وعلى مثل ذلك جاءت الآثار عن السلف في تأويل الآية : إذا دعيتم إلى المعاصي فاهربوا في الأرض ، فإن أرض الله واسعة.
وقال بعضهم (٢) : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاهربوا إلى أخرى ؛ فإن أرضي واسعة ، وهو ما ذكروا : أمروا بالهجرة ؛ ليسلم لهم دينهم ، ووعد لهم السعة والحسنة في الدنيا ، وفي الآخرة أعظم منها ، وهي ما قال : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [النحل : ٤١] وقال في هذه الآية : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي : إن أرضي واسعة ، فإن منعتم عن عبادتي في
__________________
(١) ذكره الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (٣ / ٥٠) ، وقال : رواه الثعلبي عن النبي صلىاللهعليهوسلم مرسلا.
(٢) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير (٢٧٨٤٤) و (٢٧٨٤٦) ، والفريابي والبيهقي في الشعب ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٨٥) ، وهو قول مجاهد وعطاء وابن زيد.