وفي قولهم : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) وجه آخر : وهو أن يقال : ما هذه المحاسن والأعمال [التي] تعملون وتعدون محاسن وصلاحا في هذه الدنيا إلا لهو ولعب ؛ لما لا تبقى ولا تنتفعون بها إلا ما ابتغي بها وجه الله والدار الآخرة ، وهو ما قال : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي : هي الباقية الدائمة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).
وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) قد ذكرنا في غير موضع : أن الاستفهام من الله يخرج مخرج الإلزام والإيجاب ، أو يخرج مخرج الخبر ، لا على حقيقة الاستفهام ؛ لأنه عالم بذاته ، يعلم ما في باطنهم وظاهرهم ، وما يسرون وما يعلنون ، بما كان ويكون ، لا يستفهم عباده شيئا ، ولكنه يخرج على ما ذكرنا على الخبر ، أو على الإلزام والإيجاب ؛ فالخبر كأنه يقول : قد رأوا وعلموا أن الله جعل الحرم مأمنا لهم يأمنون فيه ، وكان الناس حولهم يتخطفون ويخافون ، والإلزام والإيجاب أن يقول لهم : اعلموا أن الله جعل لكم الحرم مأمنا تأمنون فيه والناس من حولكم على خوف يسلبون ويسبون ويقتلون.
ثم يخرج تذكيره إياهم هذا على وجهين :
أحدهما : أن الله قد جعل لكم الحرم مأمنا تأمنون فيه ؛ لتعظيمكم حرم الله وبيته ، والناس حولكم على خوف ، وأنتم تشاركون من حولكم في الدين ، فكيف تخافون الاختطاف والاستلاب إذا دنتم بدينه واتبعتم رسوله ، فإذا آمنكم بكونكم في حرم الله وتعظيمكم بيته ، ودفع عنكم الاستلاب والاختطاف ، فكيف تخافون ذلك إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره؟! بل الأمن والسعة إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره أكثر وأحق ؛ فكأنهم إنما تركوا اتباع دينه خوفا من الاختطاف ؛ كقولهم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) فقال لهم : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص : ٥٧].
أو يذكر هذا لهم : أنه قد أمنكم وصرف عنكم مع عبادتكم الأصنام وصرفكم الشكر إليها عند كل مكروه وسوء بكونكم في مجاورة بيته وحرمه ، فإذا صرفتم العبادة إليه وشكرتم نعمه ـ أحق أن يؤمنكم ويوسع عليكم نعمه ويدفع عنكم ما لم يدفع عمن حولكم ، وأنتم شركاؤهم في عبادة الأصنام واتخاذهم إياها آلهة.
على هذا يخرج ، والله أعلم.
وقوله : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) يحتمل قوله : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي : بما أوحى إليكم إبليس من الباطل تؤمنون ، وهو ما أوحى إليهم : أن هؤلاء شفعاؤكم عند الله وعبادتكم إياها تقربكم إلى الله زلفى ؛ كقوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ ...) الآية [الأنعام : ١٢١].