ملوك الأرض وأتباعه وحشمه ؛ لأن ملوك الأرض أعزاء بهم ، فإذا هلك ذلك ذهب عزهم ، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ إذ هو عزيز بذاته لا بشيء ، فهلاك من هلك من عبيده لا يوجب نقصا لذلك فيه.
وقوله : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) إنما يكون خلف الوعد في الشاهد لإحدى خصال ثلاث :
إما لندامة استقبلته فيما وعد فتمنعه تلك الندامة عن إنجاز ما وعد ، وحفظ الوفاء له.
وإما لحاجة وقعت له فيما وعد فتمنعه تلك الحاجة عن وفاء ما وعد وإنجاز ما يطمع.
وإما لعجز يكون به لا يقدر على إنجاز ما وعد ، فيحمله عجزه عن وفاء ما وعد وإنجازه ، فإذا كان الله ـ سبحانه ـ يتعالى عن الوجوه التي ذكرنا فإن ما وعد لم يحتمل الخلف منه ، ولا قوة إلا بالله.
وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يحتمل قوله : (لا يَعْلَمُونَ) لما لم ينظروا ولم يتفكروا في الأسباب التي هى أسباب العلم بعد ما أعطاهم أسباب العلم ، لكنهم إذا تركوا النظر في الأسباب والتفكر فيها لم يعلموا ، فلم يعذروا بذلك لتركهم النظر والتفكر فيها.
ويحتمل قوله : (لا يَعْلَمُونَ) أي : لا ينتفعون بما علموا ، فنفى عنهم العلم ؛ لما لم ينتفعوا بهذه الحواس وإن كانت لهم هذه الحواس.
وقوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) يحتمل قوله : ظاهر الأشياء في المنافع ، ولا يعلمون باطن المنافع بم؟ وكيف؟ نحو ما يعلم أن الماء به حياة الأشياء ، ويعلمون أن بالطعام قوام الأبدان ، ولكن لا يعلمون قدر منفعته وكيفيته وما في سرية ذلك من المنافع ، وكذلك السمع والبصر واللسان لا يعلم حقيقة ذلك وكيفيته ، وإن كان يعلم أنه بها يسمع ويبصر ويتكلم ويفهم.
وجائز أن يكون قوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً) : منافع الحياة الدنيا ، وعن منافع الآخرة هم غافلون ، وإنما أنشئت منافع الدنيا لا لتكون لها ، ولكن ليعلموا بها منافع الآخرة.
وابن عباس (١) والكلبي وهؤلاء يقولون : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قالوا : يعلمون معايشهم ، وتجاراتهم ، وحرفهم ، وجميع الأسباب والمكاسب والحيل التي بها تقوم أمور دنياهم (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي : لا يؤمنون بها ، والله أعلم.
__________________
(١) أخرجه ابن جرير (٢٧٨٨٦) و (٢٧٨٨٧) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٩٢).