عاقبة ما لو لا تلك العاقبة لكان لا يحمد ؛ إذ في الحكمة التفريق بين الولي والعدوّ ، وقد أشركهم جميعا في هذه الدنيا بين الولي والعدو ، ولو لم يجعل دارا أخرى يفرق فيها بينهما لكان لا يحمد فيما أشركهم فيها.
والثالث : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : بالبعث ؛ لأنه لو لم يكن البعث لكان خلقه السموات والأرض وما بينهما لعبا باطلا لا حقّا ؛ كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً).
وقوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) سمّى البعث : لقاء الرب ، والمصير إليه والرجوع إليه ، والبروز إليه ، والخروج ، وإن كانوا في الأوقات كلها بارزين له ، خارجين ، صائرين إليه ، راجعين ؛ لأن خلقه إياهم إنما صار حكمة لذلك البعث ، والمقصود بخلقهم ذلك البعث ؛ لذلك سمي البعث بما ذكرنا.
وقوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ).
وقوله : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) يذكر أهل مكة ويوبخهم في تكذيبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وسوء معاملتهم إياه بما ذكر من القرون الماضية أنهم مع شدتهم ، وقوتهم ، وبطشهم ، وكثرة أتباعهم وحواشيهم وأموالهم ، وطول أعمارهم وبنيانهم ـ لم يتهيأ لهم الانتصار والامتناع عن عذاب الله إذا حل بهم بتكذيبهم الرسل ؛ فأنتم يأهل مكة دونهم في القسوة والبطش والحواشي والأتباع ، فكيف يتهيأ لكم الانتصار والامتناع من عذاب الله إذا كذبتم الرسول ، والله أعلم.
وقوله : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) جائز أن يكون على التقديم والتأخير ، (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) مقدما على قوله : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) يقول : ما حل بهم من العذاب وعذبوا في هذه الدنيا بتكذيبهم ، لم يظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم بما أساءوا.
ويحتمل أن يكون قوله : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) في تعذيبهم في الدنيا (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ثم يكون قوله : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) في الدنيا (السُّواى) في الآخرة في النار ، فيكون في الدنيا ما عذبوا في الدنيا عذاب عناد ومكابرة ، وما يعذبون في الآخرة تعذيب كفر وتكذيب ، وهو ما قال : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ).
وقال بعضهم : (١) (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي : كربوا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها
__________________
(١) قاله الضحاك أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٩٣).