التراب ، فإنما هو إخبار عما به قوام أنفسنا وأبداننا ، وإن لم نخلق من التراب من الأصل ، فيخبر ـ والله أعلم ـ : أنكم لا تصورون خلق الجسم إن لم تشاهدوا تلك الطينة التي منها تتكون الأجسام بعد مشاهدة طينتها ، ومعاينتكم إياها ، ورأيتم القدرة له على خلقها قبل أن تشاهدوا طينتها (١).
والثالث : نسب خلقنا إلى التراب ، وهو آدم ؛ على ما ذكرنا ، إلا أن قوله : (خَلَقَكُمْ) أي : قدركم من ذلك الأصل ، والتخليق : هو التقدير في اللغة ، وذلك جائز في اللغة ، وإنما قدرنا على تقدير ذلك الأصل ، وذلك جائز نسبتنا وإضافتنا إلى التراب ، إن صح ما ذكر في بعض الأخبار ذكر : «أن ملكا يأتي بكف من تراب ، فيذره في تلك النطفة في رحم المرأة ، فيخلق منه حينئذ الولد» ، فإن صح هذا فيكون خلق جميع الناس وأصلهم من تراب.
وقوله : (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي : ثم إذا أنتم ذريته من بعده بشر تنبسطون ؛ كقوله : (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) [الشورى : ٢٨] أي : يبسط.
أو (تَنْتَشِرُونَ) ، أي : تتفرقون في حوائجكم ، وفي طلب أغذيتكم ، وما به قوام أنفسكم ، والله أعلم.
وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي : من أجناسكم وأشكالكم (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) يقول : إنما جعل ما تسكنون إليه وتتألفون من جنسكم وشكلكم ما تعرفون ، لم يجعل في غير جنسكم وشكلكم ما تعرفون ؛ كقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] أي : من جنسكم وشكلكم من تعرفون صدقه وثقته وأمانته ما لو كان من غير جنسكم وشكلكم لا تعرفونه ؛ فعلى ذلك جائز قوله : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي : من جنسكم ما تسكنون إليها ، وتستأنسون بها ما لو كانوا من غير جنسهم لا يكون ذلك ؛ إذ يستأنس كل ذي شكل بشكله وجنسه.
والثاني : ما ذكرنا أنه أراد آدم وحواء ؛ أي : خلق زوجته حوّاء من نفسه ، فجعلها له سكنا يسكن إليها ، ويستأنس بها ، والله أعلم.
وقوله : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) أي : بينكم وبين الأزواج (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) يحتمل قوله : (مَوَدَّةً) وجهين :
أحدهما : يودها ؛ لما جعل له موضعا لقضاء شهوته وحاجته ، وكذلك هي توده
__________________
(١) ثبت في حاشية أ : ثم ما أنكرتم القدرة على خلق الأنفس من أصل وإن لم تشاهدوا ذلك الأصل ، وإن لم يدخل في إدراككم ، ولم يتصور في قلوبكم. فكيف أنكرتم؟!